مذكرات نجفي - محمد رضا المسقطي


...واخيرا - نقلت الى الشيخ اديب - بعد ان تنقلت بين عدة كتاتيب او الشيوخ - حسبما كنا نسميهم - وكان اغلبهم من الجالية الايرانيه ويرتدون لباس رجال الدين ، ويقوم هؤلاء بتحفيظ الطلاب الصغار سورا من القرآن الكريم وتعليمهم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب على طريقة القرون الوسطى ، اذ يبدأ الشيخ - او احد مساعديه ( الخلفة ) يقراء بصوت عال ويعيد الطلاب ما يقراء الشيخ بلهجة واحدة وامام كل واحد جزء من القرآن الكريم يحتوي على الايات التي يعيدون قرائتها وغالبا ما يهزون رؤسهم ويتأرجحون في جلستهم وهم جالسون على الارض ولايفصلهم عن ترابها او الطابوق سوى حصير صنع من سعف النخيل وبعض الاحيان لايفصلهم اي شيء خصوصا اذا كان المكان الذي اختاره الشيخ للتدريس ايوانا في الصحن العلوي الشريف ، وعندها يستخدم اغلب الطلاب مفرشا صغيرا خاصا يصطحبونه معهم ، وكثيرا ما كان التلاميذ الصغار يلاقون الامّرين من قسوة هؤلاء الشيوخ لعدم معرفتهم باصول التدريس وطريقة تلقين الطلاب ، فاذا ما تلكأ احدهم او عطس او تنحنح او لم يستوعب الدرس او00 او000 يهوى عليه الشيخ بعصاه لينال جزاء ماحدث منه ، وقد يساعد بعض الاحيان سؤ حظ زميله ان تقع العصى عليه خصوصا اذا ما حاول الطالب المقصود الهرب او هرب بالفعل ، وهذا ما يحدث احيانا..


ومما يزيد الطين بلة ان اولياء الصغار غالبا ما كانوا يوصونهم بالشدة والعنف لانها في نظرهم الطريقة المثلى لتربية الطالب ودفعه الى التعليم والانتباه - وقد يترجم هذا العنف المتوارث او الشائع - بقوله للشيخ " لك الجلد ولي العظم " اي انك استعمل معه الشدة ولكن بدون كسر العظم.

ومن حسن حظي ان والدتي كانت على خلاف ذلك ، فانا ولدها العليل المدلل وكان خالي عندما يذهب ليسجلني يوصيهم بناء على رغبة والدتي بان لاأمس باي اذى.

وخالى رحمه الله كان يرتدي لباس رجال الدين وهو من عائلة دينية عريقة وكان وقورا وقويا ومحترما ، لذلك كانوا يلتزمون بتوصياته المشددة خصوصا انني كنت مضرب المثل - بين اخواني واخوتي - في الهدوء والدعة.

وكان خالي هو ولي امري لان والدي كان لايزال يعيش في مسقط ولا يمكث عندنا في السنة الا بضعة اشهر يشتغل فيها في تعلم الدروس الدينيه ، هوايته المفضله رغم انه يعد من التجار البارزين في مسقط راسه ومقر اقامته مسقط . ومسقط في ذلك الحين كانت على راس دول الخليج وابرزها ومصدرا لاعادة التصدير الى المناطق المجاورة.

اجل لحسن حظي لم اضرب ولا مرة واحدة وان كان قلبي يتفطر ( الما ) عندما اشاهد الشيخ يهوي بعصاه بقسوة على قدمي أحد هؤلاء التلاميذ لانه لم ينتبه للدرس او لم يستوعبه او انه من ضجره قد ابدى احدى الحركات التى لاتليق او لايستسيغها الشيخ او اعتبرها سخرية منه او عدم احترام او ... او ...

وكان من الطبيعي ان يحدث الطلاب بعض الشغب ( نظرا ) لمقتضيات سئمهم وللساعات الطويلة التي يقضونها دون اية فرصة للراحة والتنفس - من الصباح الباكر وحتى الظهيره وعدة ساعات عصرا علما بان غالبية الطلاب تتراوح اعمارهم بين الخامسة والعاشرة جالسين على الارض لاتفصلهم عنها سوى قطعة حصيرة او سجادة باليه يتراوحون بين التربع والقرفصاء والويل لمن يمد قدميه ليدفع عنها الخدر ، ولايسعهم التحرك وتغيير جلستهم فقد حشروا في مكان لايسع لنصف عددهم.

قلت لحسن حظي لم اضرب ، وان كنت قد هربت مرة او مرتين خشية الضرب ، في حين ان الذنب لم يكن ذنبي وانما ذنب قريني الذي اخفى حركته الشاذة ببراعة ، ولحسن حظي ايضا رغم كثرة تنقلاتي بين هؤلاء الشيوخ من سن الخامسة حتى العاشرة لم اذهب ولا مرة واحدة الى ( الملة ) التي كانت تقوم بعمل هؤلاء الشيوخ ولكن لتعليم الفتيات الصغيرات والصبيان الصغار معا اذا كانوا في سن مبكرة وربما السبب في ذلك ان الملة كانت اكثر قسوة وشدة في المعاملة ، ولم تشاء والدتي ان تعرضني لذلك رغم انها ارسلت شقيقتي الكبرى واخي الاصغر الى الـ ملة ( وهنه ) التي كانت دارها في نفس محلتنا ( العماره ) . وكانت شهادة التخرج من مكتب الشيخ والملة بالخصوص - وذلك عندما يختم الطالب او الطالبة القرآن الكريم - ، هي ان تقام في دار المتخرج حفلة يحضرها جميع الطلاب والطالبات وهم يرافقون المتخرج بزفة جماعيه تتقدمها الملة وهم يهزجون " حبابة وخاتمة القرآن " ويصلون على النبي حتى ( يصلوا ) الى دار الطالبه ليتناولوا الحلويات ولتحصل الملّة على هديتها - والتي تسمى خلعة - وهذا غالبا ما كان يحصل بالنسبة الى الطالبات ( اذا ختمن ) القرآن في سن مبكرة وكن من العائلات المرموقة او الثرية.

قلت انتقلت اخيرا الى الشيخ اديب وانا لم اتجاوز العاشرة ، وكان يستأجر غرفة وساحة مكشوفة في (البالا خانه ) اي في الطابق العلوي من بناية خلف الصحن الشريف لايفصلها عنه سوى ممر ومجاورة لحمام الرجال الذي يدعى " حمام الحضرة " لمجاورته للصحن العلوي الشريف.

والحمامات في النجف كانت عبارة عن ساحة مسقوفة تحيطها دكات يخلع فيها الواردون ملابسهم وتجمع في زاوية او في الوسط اذا اكتظ المكان وتغطى بعبائة المستحم او ثوبه ، وبعدها يقدم له ازار يابس يئتزر به وعندما يذهب الى داخل الحمام يبدله غالبا العامل بازار مبلل ليحتفظ له بالازار اليابس عند خروجه ، وداخل الحمام هو عبارة عن ساحة فيها دكات ترتفع عن ارض الحمام بمقدار لبنة يجلس عليها المستحمون ويجلبون الماء من الحوض الكبير ( الخزانة ) بمساحة غالبا ما تكون حوالي 4 امتار في 6 ، او 8 امتار ، يملأ بالماء المستخرج من البئر ويسخن حيث انه مجوف من التحت ويضاف اليه الماء كلما نقص ولا يغير ماؤه او ينزح الا كل شهر او شهرين او اكثر ، لذلك قبيل الفجر عندما يبداء الحمام يستقبل الزبائن يقوم اثنان او اربعة من عمال الحمام باستخدام قطعة قماش كبيرة يمسك كل واحد منهم بطرف منها ليقشعوا الاوساخ المتجمعة والتي تغطي سطح الحوض بشكل كامل وبسمك عدة سنتيمترات ، وطبعا اذا مازلت يد احدهم او فلتت قطعة القماش عن ملامسة الجدار وهو ما يلزم حدوثه فتتخلف بعض الاوساخ لتغوص مرة اخرى وتكدر صفاء الماء ، وبعدها يقوم هؤلاء العمال باستعمال اسطوانة مجوفه ( الطرمبه ) مفتوحة من طرفها وفيها ثقب صغير من الطرف الاخر وتستخدم لشطف الاوساخ المتجمعة في قاع الحوض ، وعندما تملاء الاسطوانة بالاوساخ ترفع لتفرغ خارج الحوض ولكن دائما عند رفعها لتفريغها في الخارج تفلت بعض الاوساخ لتعود الى الحوض مرة اخرى وتنتشر فيه . - وتعليقا على هذه الاحواض - اتذكر قصة طريفة حدثت وتناقلتها الالسن مع الشيخ ميرزا جميل الخليلي - وهو شيخ من عائلة علمية معروفة بالنجف ويرتدي لباس رجال الدين لأنه منهم كما ان كثيرا من افرادها بما فيهم الشيخ ميرزا جميل يتعاطون الطب اليوناني بالوراثة حيث يتتلمذ الولد على والده او عمه او خاله.

لقد شاهد الشيخ احد رجال الدين يتمضمض من ماء الخزانة فتقرب منه الميرزا وسلم عليه وقال له ان لدي مسئلة اود ان اسئلك عنها فرحب به الشيخ فقال له : اذا جلبت اناء نظيفا من البلور ووضعت فيه ماء نظيفا ووضعت داخله قليلا " خصيتي " فهل تتمضمض منه ؟ ‍! فزجره الشيخ وقال له : ابعد عني قبحك الله . فاجابه : شيخي ان هذه الخزانه يغسل فيها العشرات او المئات خصيتهم و.... وكثيرا من الاولاد الصغار يتبولوا فيه ، وهذا كثيرا ما كان يحدث - وقد حدث لي ايضا عدة مرات عندما كنت صغيرا - فكيف تتمضمض به مع ان الحديث الشريف ينص على التمضمض من الماء الذي يشرب منه الشخص ، فهل تشرب من هذا الماء ؟ !

واود بهذه المناسبة ان اسرد لكم قصة اخرى ، عندنا شغاله تشتغل عندنا بعض ساعات النهار في المسح والتنظيف وكانت معها ابنتها الصغيره التي لم تبلغ الثالثه وكانت تغطي وجهها ويديها الاوساخ ، فأمرتها والدتي بان تغسل وجهها وتزيل عنها هذه الاوساخ ، فما كان منها الا ان غسلت وجهها ويديها بماء غسالة المسح الذي لم يزد وجهها الا وسخا فوق اوساخها وشملت الوجه واليدين باكملها بدل جوانب منها !! فهل ياترى في هذه القصة الغلط في التوجيه ؟ او في فهم المتلقي القصد ؟ هكذا بالنسبة الى كثير من الاحكام والروايات ، فان الغلط ليس في التشريع وانما سوء الفهم لغرض المشرع او التفسير الخاطيء لتعاليمه واوامره وارشاداته ! ومن المؤسف اننا لو دققنا لوجدنا الكثير من ذلك . وربما من جملة الاسباب التي منعت تقليد الميت ابتداء واكدت على تقليد الاعلم هو ان فهم كثير من الامور تتعلق بالمستوى الثقافي والحضاري والاجتماعي ، فليس غريبا اذا ما عرفنا مثلا ان الروايات التي تنص على ( ان الماء اذا بلغ حد كر لاينفعل بالنجاسة الا اذا تغير لونه او طعمه او رائحته ) وعلمائنا الاجلاء فيما مضى لم يكن احدهم يعرف المكروب واسباب التعفن ولم يستوعبوا مضمون الحديث المطلق ، حيث لاحظوا ان الماء اذا ترك لفترة دون ان يمسه اي شيء يتغير لونه وطعمه ورائحته او احدهما على الاقل وحسب ثقافة وحضارة ذلك الزمان لم يجدوا سببا لان يتغير الحكم ، ففسروا الحديث بان المقصود هو التغيير بالنجاسة واضافوا قيد " النجاسة " في فتواهم ورسائلهم العملية واصبح الحكم هكذا (( اذا بلغ الماء حد كر لاينفعل بالنجاسة الا اذا تغير لونه او طعمه او رائحته " بالنجاسه " )) واخذوا يتوسعون في التغيير بالنجاسه هل هو ادخال النجاسة اليه مرة واحدة - او يكفي تجمعها نتيجة كثرة الاستعمال.

وقد تنبه المرحوم العلامة الشيخ محمد رضا المظفرالى هذا اللبس والخلط الحاصل بين نص الروايات ونص الفتاوى في الرسائل العمليه واشار بوضوح الى ان النص الوارد في الروايات من الائمة عليهم السلام هو :- ( اذا بلغ الماء حد كر لاينفعل بالنجاسة الا اذا تغير لونه او طعمه او رائحته ) وان القيد الاخير الموجود في الفتاوي المسجلة في الرسائل العمليه والمضافة الى نص الروايه حتى يحسبها القارئ لاول وهلة انها جزء من الروايه . في حين ان القيد الاخير ( بالنجاسة ) هو من اضافة العلماء الاقدمين وكان رايه - وهو الصحيح - اننا اذا اخذنا نص الروايات على اطلاقها فان جميع الاحواض التي تستعمل - للتطهير - والتي قلما كانت تخلوا منها دار في النجف خصوصا قبل وصول المكائن التي تجلب الماء من نهر الفرات بواسطة الانابيب من الكوفة والتي تبعد حوالي عشرة كيلو مترات عن النجف ستصبح غير قابله للتطهير وتنفعل بالنجاسه حكمها حكم الماء القليل.



وهذه الاحواض كانت تملاء من الابار التي كانت في جميع بيوت النجف الا ماندر والقسم الاكبر من هذه الابار كانت متصلة بعضها ببعض وبينها ممرات وتسمى بالابار السلطانيه ، وقد سمعت - ان الثوار ايام ثورة العشرين واحتلال النجف من قبل السلطات الانجليزيه بعد محاصرتها قرابة اربعين يوما - كانوا يستعملون هذه الابار للهروب من مداهمة السلطات لهم والانتقال من دار الى دار او الخروج الى خارج البلدة.

وقد كان نقص الماء في الاحواض نتيجة الاستعمال يعوض باستخراج الماء من الابار كل يوم او كل بضعة ايام وهناك عمال مختصون يدعون المَلة - بفتح الميم - وهم متواجدون في كل محلة ويطلبون لملأ الحوض من البئر وغالبا ما كان اهل الدار يحتفظون بالدلاء والرشاء وفي بعض الاحيان الرجال في الدار هم الذين يقومون بهده المهمة لتلافي نقص ماء الحوض خشية ان يخرج عن قدر الكر وعندئذ يفقد ميزة عدم انفعاله بالنجاسة او لضعف حالتهم الماديه . ويتم قشع الاوساخ التي تغطي سطح الحوض عندما يترك طوال الليل هادئا - بواسطة ازار يمسكه اثنان كل من طرف صباح كل يوم قبل استعمال الحوض وبنفس الطريقة التي تقشع فيها الاوساخ من احواض الحمامات وبعدها ايضا يستعملون ( الطرمبه ) لنزح ما تبقى في قاع الحوض ويفلت من الاوساخ ما يفلت لعدم تمكن تفادي ذلك . وهذه الاحواض تستعمل لغسيل كلما يحتاجون الى غسله لعدم وجود مياه غيرها عندهم ويستحمون فيها بالصيف ويتمضمضون منها عند الوضوء لكل صلاة او عند استخدام السواك . وغالبا ما كانت تفرغ هذه الاحواض وتنظف لتملاء كل سنه او ستة اشهر ، تفرغ مياهها في البالوعه وكثير من البيوتات ليست لديهم بالوعه سن والمقصود ( بالسن ) البالوعة العميقه التي تجتاز الطبقة الصخريه والتى عادة لاتمتلاء اصلا ولا تحتاج الى النزح حيث ان المياه والفضلات تتسرب في الطبقات السفلى.

اجل ان كثيرا من البيوتات التي ليست لديهم بالوعة عميقه خشية من امتلاء البالوعه واضطرارهم الى نزحها - وهذا ما يكلفهم - يرشون ماء الاحواض - بما فيها من الاوساخ المتعفنة في قعر الحوض - في الازقة التي تلي بيوتهم ويقوم بهذا العمل ( الملاء ) او بعض الاولاد الصغار بحيث يضطر المارة ان يمسكو بانوفهم من شدة ( العفونه ) ويرفعوا ثيابهم قليلا لان تجمع المياه التي قد يبلغ بضعة اصابع - تلوث ثيابهم.

وعلى ذكر السواك انني شاهدت بعض العلماء وائمة الجماعة يضع السواك وهو غالبا من عيدان شجر الاراك في حنك عمته يستخدمه قبل كل صلاة عملا بالاستحباب دون ان ينتبه الى ان المقصود من استعمال السواك هو تنظيف الاسنان وليس توسيخها واستعمال السواك دون ماء ودون تنظيفها مرة بعد اخرى سيساعد على توسيخ الاسنان ونمو المكروبات فيها . وهذه ايضا احد الامثلة على سوء فهم الاحاديث و لمقصود المشرع ، اذ المفروض من الحث على السواك هو تنظيفها والا فان عود ( السواك ) ليست له خصوصيه خاصه ولا قدسيه ليتبرك به.

ومن باب الكلام يجر الكلام اتخطر انني في اواسط الاربعينات بقيت فترة الصيف في سامراء لنقاوة الجو هناك وبرودته بعض الشيء وكنت اقضي النهار مع زميلي السيد محمد حسن القاضي نجل العالم الرباني السيد ميرزا علي القاضي الذي جاء ايضا للاصطياف واخذ غرفة في مدرسة الشيرازي الكبير وكنت اقيم معه في النهار وفي المساء التحق باهلي الذين كانوا قد استأجروا داراً لفترة الصيف - ومدرسة الشيرازي مدرسة معروفة في سامراء تحتوي على غرف كثيرة مخصصة لطلاب العلوم الدينيه ، قد أنشأها الشيرازي الكبير المرجع الديني الذي نقل مقره الى سامراء ونشطت في حينه الحركة العلمية هناك - وبعد وفاته اصبحت المدرسة شبه مهجورة وان كان المرجع الديني الكبير السيد ابو الحسن الاصفهاني قد اهتم بسامراء وبالمدرسة بالخصوص والحركة الدينية فيها فقد خصص رواتب لطلابها واقام لها مسؤلا وتعهد شيوخ سامراء بالصلات ليحافظوا على الطلبة هناك وحمايتهم من تعرض الجهال ، ولكن مع هذا كان فيها فراغ كبير وان كانت في ايام الصيف تملاء تقريبا من الطلاب الوافدين لقضاء فترة الصيف ومنهج التدريس في الحوزات العلميه في النجف والمراكز الاخرى لايشتمل على التمتع بعطلة صيفية كما هو المعهود في بقية المدارس وانما عطلهم محصورة بالمواسم الدينيه وشهر رمضان الذي تقام فيه دورات لتفسير القران غالبا . لذلك اتفقت انا وزميلي لاختيار احد الاساتذة الذين كانوا في المدرسة ووقع اختيارنا على العلامة السيد محمد المرعشي وبدأنا ناخذ عنه بعض الدروس لكيلا يذهب وقتنا سدى رغم اننا كنا من طلاب كلية الفقه التي تسير في اسلوبها الدراسي على النهج المعروف حاليا حيث انها تعطل فترة الصيف بعد انهاء فترة امتحاناتهم التي كانت توافق نفس فترة الكليات الاخرى في بغداد.

وفي فترة بقائي في هذه المدرسه اذكر حادثتين لازالتا تلازمان ذاكرتي . الاولى : - ان احد كبار تجار الذهب والمجوهرات في النجف والمعروف بحبه للخير والتبرع لطبع كتب الاوراد والاحاديث والذي كان يضع اسمه وصورته على الصفحة الاولى ، وصل سامراء واشترى كمية من البطيخ الاحمر الذي كان متوفرا في سامراء وباسعار متهاوده جدا ، فالكيلو الواحد بحدود فلسين ، اختار الكميه بحجم متقارب ثم وضعها في ساحة المدرسه واخذ الطلاب يتباشرون لانهم جميعا كانت مواردهم محدودة جدا ، - فالراتب المخصص لكل واحد منهم حوالي الدينار الواحد شهريا شاملا جميع مصاريفه واحتياجاته - . والتاجر المذكور كان يقف في الساحة واثار الفرح والكبرياء ظاهرة عليه وهو يتفرج على الطلاب بكبرياء وترفع في اختيار كل منهم واحدة من هذه البطيخات ، وطبعا بعضهم يشكره ويسلم عليه وكنت انا وزميلي ننظر الى هذا المنظر من شرفة الغرفة التى تطل على الساحة ، وكانت الغرف جميعها تقريبا تشرف على الساحه ، وقد مرعلينا بعض الطلاب مسرعين ليحثوننا على النزول للاختيار قبل النفاذ وكانوا يتعجبون حينما نردهم باننا لسنا في حاجة الى ذلك او اننا زاهدون فيه . وقد كنت افكر ان المحسن الكبير - كما كانوا يعرفونه - لماذا لم يكلف احدا في ان يوزع هذا البطيخ على الغرف بعدد الاشخاص الموجودين فيها ليحفظ لهم ماء وجوههم اولا ولينال اجر من ينفقون سرا في سبيل الله وليس لغرض التباهي والابهة ليستحق لقب المحسن الكبير بجدارة لا ليلوك الجميع اسمه اعجابا او استهجانا.

والحادثة الثانيه : - انه قدم الى المدرسه حلاق واستولى على احد الغرف الفارغة واخذ يقوم بعمله في حلاقة رؤس الطلاب وطبعا كان يتقاضى اجورا زهيدة . وبعد فترة شعر بان مايحصل عليه لايزيد عما يحصله هولاء الطلاب فقرر ان يلبس ( العمة ) وهو لباس رجال الدين وطلابه وينخرط في سلك الطلاب . ولاجل ان يغير من وضعه ومن الصورة الذهنية الماخوذة عنه كحلاق لاتتجاوز معرفته شؤن الحلاقة البسيطه التي يمارسها وهي عبارة عن تشذيب اللحى وحلق الراس بالموس وكان المتعارف او السنة التي يسير عليها رجال الدين هو حلق رؤسهم بالموس . ومن الشذوذ الذي يوجب الانتقاد والتشديد فيه بل ومما يبح للاخرين استغابته اذا تجرأ بعض الطلاب ولم يحلق راسه بالموس وخصوصا اذا ابقى فيه شعرا كثيفا والذي كان يسمى باللغة الدارجه ( تواليت ) او كدله . ولا ادري من اين جائت هذه السنه الغريبه في حين ان المعروف ان النبي ( ص ) والائمة الاطهار كانوا يحتفظون بشعر كثيف في الراس وانهم كانوا يمشطونه ويدهنونه كما كان متعارفا في ذلك الوقت . اجل من اجل ان يغير مركزه والصورة الماخوذة عنه كحلاق سمعته وهو جالس على دكة الحوض الكبير في الساحة الخلفية للمدرسه وكان الوقت قبيل صلاة الظهر واغلب الطلاب اجتمعوا للوضوء من هذا الحوض الذي هو شبيه بالاحواض التي سبق ذكرها ، واخذ الحلاق سابقا والطالب او رجل الدين حاضرا يلقي عليهم محاضرة في مساعدة الناس ويستشهد بالحديث القائل ( من سعى في قضاء حاجة اخيه المؤمن كتب الله على كل خطوة حسنة ) ويشرح لهم مضمونه حسب فهمه وهو ان على الشخص ان يقصر خطواته اذا ما سعى في قضاء حاجة لاخيه ليستزيد من الحسنات ، وقد اشكل عليه بعض الحاضرين بانه اذا ذهب لجلب طبيب لمريض فانه ربما سبب تاخره - موت المريض او سوء حالته - فعندها تفتحت قريحته وقال فليسرع في الذهاب ويعوض ذلك في تقصير خطواته الى اقصى حد وهو في الرجوع . ولم يحتمل شيخنا الوقور الذي كان بعمته الكبيرة ولحيته الكثه لايقل منظره عن منظر المجتهدين الكبار خصوصا انه كان قد بلغ الخمسين من العمر او تجاوز ذلك قليلا ولم يدر في خلده انه ربما لم يكن المقصود من الخطوة هو تحريك قدميه وانما الخطوة الاعتباريه - كما نقول خطوت خطوات في مشروع كذا او كتابة كذا او عمل كذا وانت جالس في مكانك دون ان تحرك قدما وانما كل ما قمت به هوتحرير رسالة او تاليف كتاب او الاتصال بمن يمكنه ان يساعد في المشروع . ولا ادري هل كان شيخنا المستجد يجهل اي احتمال او تفسير اخر او انه اراد ان يبرز نفسه بين الطلبه ليمسح عنه صورة الحلاق الجاهل الامي ؟ ام كليهما معا ! كما انه بعد القاء محاضرته هذه وزع عليهم عيدانا بسمك عود الكبريت لاتصلح الا لنبش الاسنان ليستعملوها في السواك لانه من المستحب السواك بعود الاراك ، وهو لذلك قسم السواك الذي عنده ليستفيد من هذا الاستحباب اكبر عدد من الطلاب.

وعودا على بدء في موضوع الاحواض وبلوغها حد الكر ( وانها ) ستصبح طاهرة مطهرة . سالت مرة العالم الجليل الشيخ محمد تقي ال شيخ راضي - حسبما اتذكر - احد الفضلاء المرموقين هل ان القيد الموجود في اخر النص ( بالنجاسه ) هو من جزء من الروايه قال لي : لا . قلت : اذاً ستصبح جميع هذه الاحواض التي تستعمل نجسه فغضب وكاد ينهرني . فسكت.
وعندما زار اية الله المرحوم الخوئي المرجع الديني الكبير الكاظميه زرته وقد كان فضيلة الشيخ محمد حسين مؤيد عنده وكان يمثله في بغداد رغم انه تاجر معروف الا انه ايضا من رجال الدين الفضلاء . سالت المرحوم الخوئي نفس السؤال فتبسم وقال : زارني احد الاساتذه المحترمين من خريجي احدى الجامعات الامريكيه وربما كان استاذا فيها - وهو بمنظره الانيق النظيف - وسألني هل هذه الاحواض التي تستعملونها طاهرة مطهرة قلت له نعم فرد علي : انني ساخرج من دين محمد بن عبد الله اذا كانت هذه الاحواض طاهره مطهره - قال لنا الخوئي بالفارسيه " ديدم بد شود " فقلت له : - الكلام للامام الخوئي - كلما يسعك ان تقوله ان الامام الخوئي حمار لايفهم . ولا داعي لان تخرج من دين محمد بن عبد الله ، ان هذا اجتهادي الخاص وليس بالضرورة ان يكون ما اراده الاسلام وقد اكبرت الامام الخوئي كثيرا على تواضعه وهو الامام الجليل وقد استقطب بتقليده اكثر الشيعه بما فيهم انا والشيخ مؤيد ، وهذا شان علمائنا الاعلام في تواضعهم وخضوعهم للواقع . ومثل هذه الامثله تعرفنا ضرورة ان يكون المجتهد على اطلاع كامل بثقافة العصر واوضاعه ليستطيع ان يفهم الاحاديث الشريفة ومصادر التشريع بشكلها الصحيح السليم.

واذا كان لنا ان نفتخر ونعتز بتعاليم ديننا الدقيقه فالحديث الشريف على اطلاقه تفادي كل خلط يمكن ان يحصل وهكذا كل احاديثنا الصحيحة لايمكن ان يؤخذ عليها اي خلط او غلط على مر الدهور - فحلال محمد حلال الى يوم القيامه وحرامه حرام الى يوم القيامه - اي ان التعاليم الاسلاميه وضعت بصورة شاملة تلائم كل العصور.

قلت اذا كان لنا ان نفتخر فعلينا ان نستوعب حضارة كل عصر نعيشه لنتستطيع ان نطبق الاحكام الشاملة كما شرعت وكما ارادها المشرع . اذ ليس من المعقول ونحن في القرن العشرين مع هذا التقدم العلمي الهائل ونعرف التلوث الذي يمكن حدوثه من اسباب كثيرة لاحصر لها ، ليس من المعقول ان نتصرف في فهم وتفسير الاحاديث على عقلية وثقافة العصور المظلمه التي ما كانت تعرف عن الميكروبات والتلوث و ... اي شىء
واذا كان موضوع الاحواض قد خرج عن دائرة الابتلاء اليوم بتوفر مياه الاساله وقد انعدمت الاحواض والحاجة اليها بصورة نهائية تقريبا فلا تزال هناك مواضيع اخرى كثيرة تحتاج الى تمحيص وفهم جيد.

وربما تكون من المواضيع المهمة موضوع المرأة والحجاب . ولتوضيح الموضوع لابد من اعطاء صورة عن وضع المراة في المجتمع العراقي والنجف بالخصوص باعتبار ان مدينة النجف هي المركز الديني الاول للشيعة وهم في العراق يمثلون الاغلبية المطلقه وهي دار العلم التي يتخرج منها المئات كل عام من رجال الدين اللذين ينتشرون في ارجاء العراق والعالم الاسلامي مبلغين ومرشدين.

وحسب التقليد الجاري - الذي اعتبر جزءا من الدين بمرور السنين وقد دعمه فتاوى بعض المجتهدين او كثير منهم من باب الاحتياط وبموجب العناوين الثانويه خشية الوقوع في الفتنة والوقوع في المحرم بكسر الطوق العرفي الذي سرى في المجتمع - ان جميع النساء في النجف في تلك الفترة - اقصد فترة الاربعينات - يرتدين العبائة بلا استثناء والاكثرية منهن يسترن وجوههن ( بالبوشيه ) بصورة كاملة عبائة صوف توضع فوق الراس وتغطي الجسم باكمله . واغلب نساء الطبقات الدينيه و المتدينه تلبس عبائتين احدهما توضع على الكتف الى نهاية القدم وغالبا ما تكون من الكتان او ما شابهه سوداء اللون بالاضافة الى العبائة الصوف السوداء التي توضع على الراس الى نهاية القدم وحسبما سمعت ( وجهت ) انتقادات شديده لكريمة احد المراجع التي كانت تكتفي بعبائة واحدة تضعها على راسها الى نهاية القدم وبالطبع بالاضافة الى البوشيه - المارة الذكر - هذا كله رغم جو النجف الساخن . اما في جنوب العراق فقلما كانت ( المرأة ) المحتشمة تسير في الاسواق لشراء الحاجيات لوحدها واذا صادف انها تسير في احد الازقة وصادفها رجل يمشي في نفس الزقاق فانها اما ان تتلصق بالجدار كي لايرى قدها وقوامها واما ان تجلس الى ان يمر.

والمعروف عن احد شيوخ الفرات انه مر بفتاة فلم تعباء به ولم تجلس فرماها ببندقيته وقتلها لانها امراءة غير مؤدبة وغير محتشمة لايليق بها ان تكون ضمن فتيات عشيرته . واذا ما صادف ان وردت الى النجف امرأة من الخارج ( سافرة ) وغالبا ما يضعون على راسها فوطه فستجد عشرات الرجال والشباب والاطفال ينطلقون خلفها ويكادون يلتهمونها باعينهم وربما سار الصبيان خلفها جماعات لا للتمتع بمنظرها ولكن لانه شئ غريب وعجيب يلفت الانظار ويثير الدهشه . وفي هذا الجو المحموم الغريب ومع هؤلاء الناس اللذين تتفتح افواههم وتجحظ عيونهم من الدهشة لوجود امراة سافرة يضطر العلماء ان يفتوا بوجوب ستر الوجه احتياطا او خشية الريبة والفتنة . رغم ان غالبية كبار علمائنا القدامى يحكمون بجواز كشف الوجه والكفين وعملا بنص الاية ( وليضربن بخمرهن على جيوبيهن ) اضافة الى الروايات الصريحه والاتفاق في ان في الحج لايجوز ستر الوجه . كما ان منطق التاريخ يؤيد ذلك ، اذ لايتصور ان في عهد الرسول كان الناس يعرفون استعمال القفاز او الجورب . وان النساء بعد نزول اية الحجاب اخذن يبالغن بستر وجوههن كما ان طلب غض الابصار ربما يشير كذلك ان الوجه رغم انه مكشوف لكن المطلوب عدم اطالة النظر . وفي بعض الاحاديث النظرة الاولى لك والثانية عليك . كما ان هناك بعض الاحاديث التي تذكر ان الرسول عليه افضل الصلاة والسلام ادار وجه بعض الصحابه عند نظرهم الى بعض النساء . واعتقد ان الحديث عن ان الوجه هو اجمل ما في المراة وان كشفه يوجب الفتنه اعتقد ان مثل هذا التعليل خارج عن الصدد فاننا ملزمون بتطبيق التشريع حرفيا وحسب النصوص وليس لنا حق التفلسف واستخراج المصلحه او المفسده لأن دين الله لايؤخذ بالعقول كما يقول الامام الصادق عليه السلام . ثم ان الله سبحانه وتعالى اعرف بالمصالح والمفاسد وما من شك ان جل الامور ان لم يكن كلها تشتمل على مصلحه ومفسده في آن واحد والله سبحانه هو وحده العارف باصدار الحكم بالجواز بناء على المصلحه الغالبه او النهي بناء على المفسده الغالبة كما في الخمر والميسر حيث يقول ( فيهما منافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما ) . فكما ان كشف الوجه يسبب بعض المفاسد فان الستر الكامل يسبب كثيرا من الحرج والمضايقات والحد من الحرية بالنسبة الى المراة و... ولذلك سبحانه وتعالى موازنة بين المفسدة والمصلحة امر بعدم اظهار الزينة الا ما ظهر منها وستر مواضع الفتنة بقوله تعالى ( ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها ) ولو كان المطلوب الاخذ بالاستحسانات لكان الاولى ان يكون ستر وجه المراة في الحج والطواف اولى لان الكل في ساعة عباده والمفروض ان يكونوا اكثر تجنبا لموارد الشبهة والاثارة.

واستمراراً في نفس الموضوع سبق يوم كنت طالبا في كلية الفقه في اواخر الاربعينات ان قدمت مقالا للنشر في مجلة البذره التي ( يصدرها ) طلاب الكليه وعرض المقال على العلامة المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر عميد الجمعيه باعتباره وحده الذي كان يشرف على مقالات الصف المنتهى وفوجئت حين رايته قد شطب قسما من المقال فسئلته هل ما كتبته تعتبره غلطا وغير صحيح قال : لا . وقد استشهد بالمثل العامي - مكروهة وجابت بنيه - ثم قال لي ان الكل يحاولون جاهدين ان يمسكوا علينا مايشهروا به بنا وانت بهذا المقال ستهيئ لهم الوسيله . قلت له : استاذي مادام ما كتبته صحيحا حسب قولك فانني لااوافق على حذف ما حذفت منه . فاجابني وانا لااستطيع ان اوافق على نشره واترك الجمعية تلاقي مشاكل لاطاقة لنا بها . واقترحت اخيرا ان ينشر المقال ويبقى مكان القسم المحذوف بياضا ويؤشر عليه ( حذفه الرقيب ) فوافق ونشر المقال على هذه الصوره . ولم تكن العلة حسبما اعتقد فيما حذفه العلامة المظفر هي المناقشه العلميه لجواز كشف الوجه والكفين ، فهذا شئ مدون في الكتب الدراسيه ومعروف الا انني في الواقع كنت اضرب على الوتر الحساس وهو ما كان يخشى ان يحدث ضجة . لقد قلت - حسبما اتخطر الان لانني لم احتفظ بالعدد - : ان اكثر علمائنا الكبار القدامى كانوا يفتون بجواز كشف الوجه والكفين - استنادا الى الادلة الصريحة الا ان اكثر ( علمائنا ) الحاضرين يفتون بعدم الجواز عملا بالاحتياط واستنتجت من ذلك ان علمائنا اليوم يلاحظون وضع العامة وتقاليدهم فهم لايريدون ان يفتوا بما يسبب اثارتهم ظنا منهم ان ذلك يسبب مشاكل وقد يشذ كثيرون وينالون بالسنتهم العلماء ويتهمونهم بالتشجيع على التفسخ و.. وكما لاكت السنتهم المجتهد الكبير ...... عندما خرجت أبنته بعابئة واحده رغم انها كانت تستر وجهها بالبوشيه فكيف اذا افتوا بجواز كشف الوجه والكفين وحتى لو لم ترتدي العبائة فيما لو كان جسدها مستورا وان كانت بالثياب الملونه . وقلت فيما قلت : ان المفروض في علمائنا الاعلام - حفظهم الله - ان يوجهوا العامه الى ما هو الصحيح الا ان الامر يبدو اصبح على العكس فان العامة بتقاليدهم واعرافهم هي التي توجه العلماء في فتاويهم وهذا ما يعتبر كارثة ستشوه حقيقة الدين وتضيف اليه ما ليس فيه . هذا خلاصة ما اذكره عن المقال . وكما ان التسامح في الامور والمسائل الدينيه يفقدها مضمونها كذلك التشدد بما ليس من الدين تحت اي فلسفة يخرجها كذلك عن مضمونها . وبعبارة اوضح كما ان تحليل الحرام يعتبر تعديا على الشريعه كذلك تحريم الحلال لافرق في ذلك ابدا . ولا ننسى ان التشدد في كثير من الامور التى لاتعتمد على نصوص صريحة وانما هي استحسانا واحتياطات لاتعتمد على دليل ستؤدي الى نتائج عكسيه ، فان التشدد في الحجاب بالشكل الذي شرحناه والذي يفصل النساء عن الرجال فصلا تاما ويسبب الاحراج والمضايقات للكثيرمن العوائل - هو السبب في تقبل هذه الدرجة من الخلاعة والتسيب التي ورثناها من الغرب - وتلقته كثير من النفوس بلهفة وشوق فان اي تطرف ( ومبالغة ) يؤدي الى تطرف ومبالغة عكسية على مرور الزمن عندما تسنح الفرصة او تتجاوز حدها.

والحديث الشريف ان الله يحب ان تستعمل رخصه كما تستعمل عزائمه يهدم قاعدة كثير من الاحتياطات المبنية على الاستحسان او التشدد لمجرد التشدد.

ولا ادري ان المجتهد هل يصح منه ان يفتي بحرمة ما هو مكروه لمجرد ان يصون المقلدين من الوقوع في طريق المحرم بناء على المقولة القائلة من حام حول الحمى اوشك ان يقع فيه . أو الافتاء بالاحتياط الوجوبي في حين ان الادلة تسوقه وبقناعة تامة الى ان الاحتياط هو استحبابي وليس ( وجوبيا ) . على ان كثير من المستحبات ليس لها اصل وانما هي مبنية على التسامح في ادلة السنن لذلك لم يدقق العلماء في صحتها واسانيد رواتها.

ولكن مع الاسف الشديد ان النظرة العامة تختلف فاذا ما دعاهم من يدعي الصلاح وعليه مظاهره الى تحريم الحلال اعتبر ذلك نوعا من الزهد والتقوى وقد يجمع حوله من يجللونه ويعظمونه في حين من يتجراء على العكس يكفر وقد لاتقبل له توبه . وقد كان المرحوم المظفر له الحق عندما حذف قسما من المقال رغم اعترافه بان ماكتب فيه لايخالف الواقع . فقد اثيرت ضجة كبيرة على الكليه عندما استخدمت ساعة منبهة بجرس للاعلان عن بدء الدرس او الانتهاء وزعموا مثيروا الضجه ان هذا يشبه الناقوس في الكنائس والتشبه بالكافرين حرام . واثيرت ضجة اخرى عندما صنعت الكليه ( رحلات ) للطلبه ، لكل طالب رحلة وهي عبارة عن كرسي له واجهة يضع عليها كتبه ويستخدمها للكتابه بدل المنضده . وقد نقل لنا العلامة المظفر نقاشه مع احد المراجع حيث استدعاه مستنكرا وضع كراسي لطلاب العلوم الدينيه في حين انهم يجب ان يقتدوا بامامهم ابي تراب الذي كان يجلس على الارض ، وكان جواب المظفر له : انت تجلس على مفرش وتحته سجادة ايرانيه وتحت السجاده الايرانيه حصيرة ، فاجابه اني لااريد ذلك الا ان الوضع يقتضي ذلك . فرد عليه الجواب نفسه قائلا : ان الوضع اليوم بالنسبة الى الطلاب يقتضي ذلك ايضا.

وفي محيط يعتبر الجرس ناقوسا محرما والجلوس على الكراسي عادة سيئة وترف لايجب ان يعود عليها طلاب العلوم الدينيه وكتابة المقالات الادبيه يصرفهم عن التعمق في الفقه واصوله كيف يستسيغ مقالا يوجه النقد اللاذع الى المراجع انفسهم ويتهمهم بمحاباة العامه.

ومن امثلة هذه المحاباة التي جرت وتجر علينا الويلات وتشوه سمعة الطائفه هي بعض المراسم في شهر محرم كاللطم الذي يبرز فيه اكثر الفتيان والشقاة منهم بالخصوص صدورهم وعضلاتهم امام المارة والمارات حتى انه في بعض الاحيان تنضح صدورهم دما ، وكضرب القامات ، وعندما افتى العلامه المرحوم السيد محسن الامين العاملي بحرمة ضرب السيوف على الرؤوس ( التطبير ) في اليوم العاشر من المحرم صدرت عدة كراسات من بعض رجال الدين ينتقدونه ، ولم يجرأ عالم او مرجع واحد ان يفتي بالحرمة ويمنع هذه الظاهره السيئة التي ابتكرها - ولاشك - بعض اسلافنا المعروف عنهم التقدس والمبالغين في الامور اما جهلا او نفاقا ورياء ليعلوا شانهم . وعندما كتب الصحفي المعروف الاستاذ جعفر الخليلي في مجلته الهاتف ينتقد هذه الظاهرة الشاذه والمحرمه والمسيئة الى سمعة الطائفه اسائة كبيره شج راسه بعمود وهو على باب داره . وعندما حاولت السلطه في حينه منع هذه الظاهره اما بغرض ازالتها او بغرض التشجيع على توسعها باعتبار ان الانسان حريص على ما منع كما حدث بالفعل فبعدما كان المتطبرون لايتجاوزون عشرين شخصا وغالبا ما كانوا من الاتراك المقيمين في النجف ارتفع العدد الى الالاف وشمل حتى الصغار والرضع وقد سمعت ان السلطة كانت توزع الاكفان التي يلبسها المتطبرون - مجانا - بواسطة احد رجال الدين المحسوبين على السلطه والمعروف عنه ممالاته للانكليز ايام الاحتلال ، واخترعوا لذلك المعاجز فقد اشاعوا ان ابواب الصحن العلوي - التي اغلقتها السلطه لمنع المتطبرين من دخوله - قد انكسرت اقفالها باول دفعة وهلل البسطاء لهذه المعجزه المزعومه وما دروا انها من ابتكارات السلطه التي اخترعت الحادثه وهيئت لها لتشغل الناس بهذه التفاهات وتصرفهم عن نقد السلطه والتحرك ضدها وهو ما كانت تخشاه لتعسفها وغمط حقوق الاكثريه.

ليس غريبا ان اعجب كل الاعجاب بذلك الشيخ الوقور ذي النظرات الثاقبه التي تنم عن ذكائه المفرط احيانا وتعكس طهارة نفسه وصفائها احيانا اخرى وهي مع ذلك تكشف في كثير من الاحيان عن قوة عزيمته ونفاذ تصميمه - حتى كأنه صاحب رسالة - يقف امام مجتمعه بكل صلابة وقوة وايمان يدافع عن مبادئه وآرائه الاصلاحية ويسعى الى نشرها ليجتذ كل نقاط الضعف والنقص في مجتمعه الذي يفترض ان يكون قدوة ونبراس خير وهدايه . الفضيلة وحدها رائده وتحقيق الفضيلة هو كل ما يسعى اليه.

اليست مدينة النجف الاشرف هي العاصمة الدينية لملايين المسلمين ، ثم اليست بيئته بالذات هي الجامعة الدينيه التي تخرج ويتخرج منها الاف العلماء والفقهاء والمراجع الذين يوجهون العالم الاسلامي الشيعي . اذا لايصح ان يكون في هذا المجتمع اي تسيب او فقدان للقيم والموازين ولا يصح ان يؤثر في تسيير رجاله اية اهواء وشهوات كانت ماديه او اعتباريه لحب الزعامة والشهره.

اجل فليس غريبا ان اعجب به كما اعجب به واحترمه كل من عاشره ولو لفترة قصيرة ، ولم اشاهد في حياتي من لمز او غمز فيه شخصيا اوشكك في نواياه واخلاصه.

ان هذه الروحيه وهذه المبادئ هي التي جرته الى نكران الذات بشكل غريب حتى انه لايانف من قيام اي عمل مهما كان حقيرا في سبيل ذلك . وهذه المبادئ هي التي دعته لان يتحدى كل التقاليد السائدة ويضحي بمكانته ويتنازل لان يقابل ويدرس الصغار المبتدئين امثالي.

كنت لازلت في الثانية عشرة من سنوات عمري يوم ذهبت بصحبة ابن خالتي وابيه الذي كان من رجال الدين وتربطه رابطة قوية بذلك الشيخ الوقور والعالم الجليل العلامه الشيخ محمد رضا المظفر مؤسس وعميد جمعية منتدى النشر ورائد حركة الاصلاح والتنظيم في جامعة النجف الاشرف والتي رغم مئات العلماء والفطاحل الذين تخرجوا منها لاتزال تفتقد التنظيم وتتخبط تخبطا عشوائيا في كثير من امورها.

لاغرابة اذا ما انبهر الفتى اليافع بالجو الجديد ، فقد انتقل فجأة من تلك الساحة والغرفة الضيقتين الذي كان يدرس فيها الشيخ ( اديب ) طلابه كمثل بقية الكتاتيب - جالسين على الارض ومتلاصقين بعضهم ببعض - الا انه يختلف عنهم كثيرا في اسلوب ومواد التدريس . فقد كان مدرسا سابقا في احدى المدارس الايرانيه لذلك فهو يتقن الرياضيات وكل المناهج التي تدرس في الثانويات ويحسن التكلم باللغة الفرنسيه والعربيه بالاضافة الى لغته الفارسيه وكان يرتدي العمامة ولباس رجال الدين كعادة اكثر مديري الكتاتيب في ذلك العهد . لقد قضى الفتى في هذا المكتب حوالي عامين وهو اخر مكتب له وقد اخذ احسن قسط من التعليم فيه ، فاغلب الكتاتيب - التي تنقل ما بينها - كانت اقرب الى التهريج وضياع الوقت منها الى التربية والتعليم وكان الطالب بالكاد وبعد فترة ربما تطول يتعلم قراة القران والكتابة بصورة بدائيه.

اما الشيخ اديب فكان يسلك في تعليمه تقريبا اصول التدريس في المدارس الرسميه ، فقد كان ينوع المعلومات ويهتم جدا بالرياضيات ويدرس بعض الطلاب الذين انهوا فترة دراستهم اللغة الفرنسيه وهو بعد ذلك خلط بين اسلوب التدريس في الحوزات العلميه اذ عهد الى الطلاب المتقدمين بتعليم الطلاب الذين اقل منهم تعليما - وبين اسلوب الامتحان المتبع في المدارس الرسميه اذ كان يمتحن الطالب بنفسه لينقله من فصل لاخر او من مرحلة لاخرى بعد تقرير المسؤل عنه . لذا كنت اجامل واتودد الى المسؤل عنى . وكان السيد علي نجل الامام الخوئي ليقدم تقريرا عني استحقه برغم قصر الفترة لكي اؤدي الامتحان الذي ينقلني الى المرحلة التاليه.

وربما كان الشيخ ( اديب ) هو الوحيد المتفرد في هذا الاسلوب من الدراسه بين كتاتيب النجف . وقد استفاد من اسلوبه الكثيرون يومئذ واعرف منهم من اتقن الفرنسية وحصل على اجازة فتح صيدليه ... في النجف في السوق الكبير ، وحسبما اتخطر انها كانت تدعى صيدلية الزهراء.

قلت لقد انبهر الفتى عندما انتقل الى مدرسة كبيرة نسبيا تحتوي على صفوف تعج بعشرات الطلاب يرتدي اكثرهم لباس رجال الدين ويجلسون على كراسي منسقه ويدرسهم اساتذه كلهم من رجال الدين الفضلاء الذين لهم مكانتهم في المجتمع.

وبعد ان انهى مرحلة عند الشيخ اديب فكر والده - على اثر ترجيح والحاح مدير احدى المدارس الابتدائيه والذي كان يخص الولد لامه بقرابة قريبة ولم تكن في المقدور الالتحاق بالمدارس الثانويه وقد رشحه قريبه بالالتحاق بالصف السادس ولم يكن ذلك ممكنا حيث يجب ان يلبس السترة والبنطلون حسب تعاليم المدارس وهما من لباس الكفار والتشبه بالكفار حرام لايليق بوالده الورع ان يفعل ذلك فقد نهاه عن ذلك اكثر اصدقائه . رغم ان التامل في هذه الاحاديث فان التفسير الاصح لها هو التشبه بحيث يلتبس الامر ويظن انه منهم كمن يلبس غطاء الراس الخاص باليهود.

ولم يكن يرجح لهم قريبه الالتحاق بالمدارس المسائيه لصغر سنه الذي لا يتناسب مع بقية طلاب المدارس المسائيه.

وقد كانت بشارة سارة لوالده عندما اخبر بان هناك مدرسة فتحت منذ فترة قريبه تابعه لجمعية منتدى النشر والتي تدرس فيها العلوم الدينيه على الطريقة الحديثه وعلى اسلوب المدارس الرسميه ، فهناك صفوف وساعات تدريس منظمه وامتحانات تعطى بعدها شهادات تميز الناجح والمتفوق عن غيره كما انه تدرس فيها بعض العلوم الاخرى كالرياضيات والتاريخ وغيرها ومؤسس الجمعية من الفضلاء المعروفين بالتقوى ورجل دين مرموق ومن عائلة عريقه . وقد اختار الاساتذة من رجال الدين الفضلاء الذين لهم مكانتهم وسمعتهم الطيبة في المجتمع.

ولقد سر الولد كذلك بهذا الخبر خصوصا عندما وجد بعض اقرانه وزملائه - ومنهم صديقه الحميم المرحوم عبد الصاحب القاموسي - قد انتقلوا من الشيخ اديب الى هذه المدرسه وقد شده الاسلوب الشيق في تدريس الادب واختيار ارق الاشعار واعذبها في الحماس والغزل العذري مما كان يشد اكثر الطلاب ايضا وحفظ ما يتلقون من قصائد ، وهو بالذات كان يستمتع بذلك غاية الاستمتاع فمنذ طفولته المبكره وهو في الثامنه كان يحس برغبته في ان يلعب مع قريباته المميزات وينظر الى البعض منهن نظرات خاصه ولازالت والدته تتحدث عنه وهو الرابعة - وهو يتذكر ذلك جيدا - عندما طلب منها ان تختار له قماشا جميلا على ان تخيطه له فلانه الجميله بالذات .
ولا شك ان حسن اختيار الاشعار الرقيقه من الغزل العذري كان له الاثر الكبير في تنمية الروح الادبيه والملكة الشعريه بالذات لكثير من الطلاب وقد برز منهم عدة شعراء في السنين الدراسيه مثل الدكتور الشيخ احمد الوائلي ، والسيد محمد حسين الصافي ، والشيخ احمد الدجيلي ، والشيخ محمد حسين المحتصر وهو بالذات بعد مرور سنتين او اكثر قليلا نظم قصيدة من عدة ادوار ( رباعيات ) في زواج قريبه الذي يكبره حوالى السنه وكان قريبه في سن الخامسة عشر من عمره . وليس غريبا ان يدرس الشعر والشعر العذري الرقيق في الغزل بالذات في مدرسة دينية اكثر طلابها يرتدون البزة الدينيه المميزه وبعضهم من اولاد العلماء والمراجع كالسيد محمد رضا الحكيم نجل اية الله السيد محسن الحكيم ، والسيد محسن الحمامي نجل اية الله السيد حسين الحمامي ، والسيد علي الخوئي نجل اية الله السيد ابو القاسم الخوئي ، والشيخ محد حسن ال ياسين نجل اية الله الشيخ محمد رضا ال ياسين ، والسيد محمد حسن القاضي نجل العالم الرباني السيد ميرزا على القاضي ، والشيخ احمد المظفر نجل اية الله الشيخ محمد حسن المظفر وغيرهم . وفي مدينة كالنجف الاشرف دون ان يكون لذلك اي صدى يثير النقد او الاعتراض رغم ان هناك الكثير من المتزمتين كانوا يترصدون الزلات والهفوات لهذه الجمعية الفتيه ومدرستها والتي في نظرهم قد تجاوزت الاعراف والتقاليد بنظامها واسلوبها في التدريس.

قلت لاغرابة في ذلك لان تعاطي الشعر والادب في النجف بجميع انواعه وخصوصا الغزل كان زينة مجالس الادب وخصوصا في مناسبات الاعراس والافراح والمناسبات الدينيه التي كثيرا ما تبداء القصائد فيها بالغزل ايضا ، وقد كانت هذه المجالس تضم العلماء والمراجع وثلة كبيرة من الفضلاء واولاد العلماء والطبقة المقدسه من عامة الناس والتجار والوجهاء ممن يتذوقون الشعر ويشترك الجميع في تشجيع الشعراء دون تحفظ وتتعالى هتافات طلب الاعاده حتى من كبار العلماء . ولم تكن زمرة التطرف والجمود التي تستنكر الغزل البرئ لها اثرها حينذاك . اما في المجالس الخاصه فكان حتى الشعر الماجن يقراء ويتندر به للتسليه كظرف برئ مستساغ ، واعتقد ان هذه السلوكيه امتدت من السلف الصالح منذ صدر الاسلام فالتقاط اشعار عمر بن ابي ربيعه كانت تهم حتى امثال ابن عباس حبر الامه.

ولا ازال اتذكر جيدا يوم نزل والدي متسلقا السلالم الى سطح الدار - حيث ان كثير من بيوت النجف كانت ساحتها اخفض من الشارع والزقاق تفاديا للحر والهجير - ووجهه يتهلل فرحا وبيده منشور صغير هو قصيدة العلامه السيد رضا الهندي الموسوي في مدح الامام علي عليه السلام . ويستهلها بالغزل الفاضح على عرف المتزمتين اليوم والذي يعتبره البعض شبيه الكفر حيث يقول :
آمنت هوى بنبوته وبعينيه سحر يؤثر
او تشجيعا على الفسق وشرب الخمر حيث يقول :
بكر للسكر قبيل الفجر فصفو الدهر لمن بكر
وقد اثارت قصيدته الرقيقة ضجة وصخبا لكنها ضجة استحسان واعجاب وليست ضجة نقد واستنكار . وقد طبعت ووزعت في النجف وكانت حديث المجالس وحفظها الكثيرون واعجب بها الكل دون ان يسمع اي صوت نشاز يستنكر ذلك.

وفي تلك الفترة لم يكن قد وصل التلفاز ولم يكن يملك المذياع ( الراديو ) سوى قلة قد لاتصل الى عدد الاصابع . وقد كان تعاطي الشعر وخصوصا الرقيق والظريف منه والغزل بالذات هو زينة المجالس الادبيه وسهرات السمر لدى الطبقات المثقفه تسلية للنفس وترفيها عن الروح بما فيهم الفضلاء والعلماء.

وشخصية المرحوم العلامه الشيخ محمد رضا المظفر مؤسس الجمعيه كانت نقيه ليس عليها اي غبار وليس لاحد فيها مغمز او ملمز ، والكل يعرف انه لم يتوخى اي فوائد ماديه حيث لم ياخذ اي فلس ولا فوائد معنويه او اعتباريه بل العكس ان انشغاله بتاسيس هذه الجمعيه وملحقاتها من مدرسة وكلية لم ترفع من شخصيته ان لم تكن قد وضعت منها . فهو من عائلة دينية عريقة واخوه الشيخ محمد حسن من المجتهدين الورعين البارزين .
وكان المأمول - كما عرف به من ذكاء وفطنة وصفاء - ان يصبح من المراجع البارزين لو استمر في الدرس والتدريس بالمستوى الذي يليق به . الا انه كان يعتبر نفسه صاحب رسالة - وهو بالفعل كذلك - فمن كان يفكر ويهتم بالاصلاح في ذلك المحيط الديني المنطوي على نفسه والجامد على الاسلوب القديم في التدريس والمتمسك بالتقاليد لحد المبالغة لايحيد عنها قيد انملة في النهج والاسلوب وحتى فى طريقة الجلوس والاكل وحتى اللباس من قمة الراس الى اخمص القدم اذ يلزم ان يلبس حذاء هو اشبه بمداس ابو القاسم الطنبوري.

وربما كان من الطريف ان انقل لكم حادثة صادفتني او صادفتها : ففي اواخر الاربعينات في الايام التي بدات المظاهرات الصاخبه تجوب شوارع بغداد بمناسبة ازمة فلسطين الاولى وكنت في طريقي قرب تمثال الرصافي واذا بمظاهرة تدافع فيها الناس حيث كان احد المتظاهرين يحمل على كتفه فتاة وهي تهتف :
( خذوني للوغى معكم خذوني وان لم تفعلوا فخذوا ردائي به شدوا الجراح اذا دمينا )
ودفعتني الموجة الى اقصى الرصيف فانزلقت فردة من مداسي الى حيث لاادري وعندما مرت المظاهره وبعدت فحصت عنها فلم اعثر لها على اثر فما كان مني الا ان دخلت الى اقرب معرض لبيع الاحذيه وكان بجنبي واشتريت منه حذاء بقياطين بدينارين وهو مبلغ كبير بالنسبة لي في تلك الايام وبالفعل لم يكن متوفرا لدي فرهنت شالا على كتفي حيث كان الفصل فصل شتاء بارد وذهبت الى احد معارفي في الشورجه واستقرضت منه المبلغ . ولم يكن هينا ان ارمي الحذاء خصوصا وقد شعرت براحة كبيرة في لبسه حيث كنت اسحل المداس سحلا بحيث قبل وصولي الى الدار بعدة امتار يسمع صوته يشخط الارض فيستشعرون بقدومي . ولم يكن هينا كذلك لانني لم استطع تسديد مبلغه الا بالكاد وبعد فتره . لذلك بقيت البسه عندما عدت الى النجف وقد سمعت كثيرا من التعليقات والتلميح بالنقد خصوصا وانه ذا قياطين وكأن القياطين من عمل الشيطان ، فالطبقة المقدسه من التجار كانوا يلبسون مثل هذا الحذاء ويسمونه ( القندره ) ولكن بدون قياطين ( قبغلي ) ، اما طلبة العلوم الدينيه فلبسه مستنكر لديهم سواء بدون قياطين او معهما ، وطبعا مع القياطين يكون النقد اشد والذع اذا ما تجراء احدهم على ذلك.

وبالصدفة كان في جوارنا احد ائمة الجماعه وكانت لي صلة بابنائه المعممين والذين هم ايضا يدرسون في منتدى النشر وكنت ازوره احيانا حيث كان يجلس قبل صلاة الظهر بساعة في منزله يستقبل زواره وعندما دخلت عليه وجه لي النقد بشكل لاذع اذ شدد على هؤلاء الذين يتجاوزون تقاليد وسيرة اهل العلم وهم يزعمون انهم يسيرون على نهجهم ، وطبعا عرفت باني المقصود بذلك التعريض ، فسئلته : شيخي هل هناك استحباب في لبس هذا النوع من الحذاء او كراهية في لبس غيره ، وقبل ان استمع الى رده استرسلت انا في الاجابه وذكرت له حديثا في احد كتب الحديث الموثوقه عندنا والتي تذكر ان المستحب في الحذاء ان يكون له لسان من الخلف تمسك كعب الرجل ، وكنت استخرجت هذا الحديث - الذي نقلته لكم الان بالمضمون وليس بالنص لاني لااتذكر النص - تحسبا لما ساقابل من نقد وتجريح.

لقد سردت هذه القصة المطوله لادلل على قدر الجمود الذي كان يلازم رجال الدين ومحيطهم دون الاستناد الا على التقليد الاعمى الذي لايفهمون هم انفسهم معناه ومصدره.

وهناك قصة اخرى مع رجل الدين هذا وامام جماعة كبيرة ويعتبر من المقدسين المعروفين . فقد اقام مادبه عشاء بمناسبة زواج احد اولاده وكان يدرس في المنتدى ايضا وكانت العاده في مثل هذه الدعوات ان يقدم لكل اثنين صحن رز وصحن مرق وتوضع ملعقة واحده للمرق ليغرف بها ، وحيث ان والدي لم ينتمي لسلك رجال الدين الا في اواسط عمره لذلك كان عندنا تناول الطعام بواسطة الملعقة شئ طبيعي وعادة اعتدنا عليها . وعندما قدم الطعام طلبت ملعقة اضافيه وبدات اتناول طعامي بواسطتها دون ان انتبه ان هذا مخالف لسلوك جميع الحاظرين وبالنسبة لي كطالب دين يعتبر شذوذا وتحديا . وفي اليوم التالي حضرت مجلس الشيخ قبيل الظهر وفوجئت بتوجيه الانتقاد الشديد لاؤلئك الذين يتجنبون السنن ويخالفون السلوكيه المطلوبه لامثالهم كقدوة ... عندها انتبهت وكانني كنت في غفلة الى انني المقصود بكل هذا التجريح . ولكي ادافع عن كرامتي سئلت سماحة الشيخ : هل تناول الطعام بواسطة اليد من السنن والمستحبات ؟ فاجابني : طبعا ولا شك ، والا لماذا يستحب غسل اليدين قبل وبعد تناول الطعام . اجبته : هذا لايصلح دليلا على استحباب الاكل باليد اذ المفروض ان اليد تكون نظيفة لقطع الخبز او تناول اي شئ يحتاج الى اليد كامساك الفاكهة لتقشيرها و .. و.. ثم ان هناك احاديث تشير الى ان الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتناول الرطب بواسطة الشوكة وهذا دليل على استحباب الاكل بواسطة الشوكة او الملعقه لان التاسي بالرسول في عمله هو من المندوبات قطعا وبادرت بالخروج لئلا احرجه اكثر من هذا . وهناك قصة ثالثة مع رجل الدين هذا احشرها هنا حشرا اذ كان المفروض ان افرد لها فصلا خاصا لاهميتها ولاختلاف مجراها عن مجرى الحوادث التي سردتها.

كان احد اولاده الذين يدرسون في الكلية وقد كان لايزال في الصفوف الاولى للكلية وقد اختارني لاكون المشرف او الموجه لتقوية الناحية الادبيه وبالخصوص الكتابة وقد ارشدته لقراءة كتاب الايام لطه حسين وكتاب مصريين اخرين ليستطيع تنمية ملكة الكتابة وطلبت منه ان يكتب بعد ذلك عن انطباعاته ونبذة عن حياته...

وفوجئت انه يكتب لي ان والده تسلل الى غرفته ليلا عندما شعر انه لايزال مستيقظا ولما راه يقرأ كتاب طه حسين غضب وسحب الكتاب بعنف ورماه جانبا وانبه بلهجة شديدة ومنعه من جلب مثل هذه الكتب الضالة فارغة المضمون ، وان عليه ان يقرأ الكتب الدراسية الدينية المفيدة - ولا ادري هل كان يعلم اني الشخص الذي طلب منه قرائة مثل هذه الكتب واغلب الظن انه لم يخبره لئلا يشوه الصورة التي كان يحملها عني لئلا يمنعه عن مصاحبتي ايضا فقد كان - من حسن الصدف - يحسن الظن بي لعلمه اني اشجع ولده هذا على حضور صلاة الجماعة خلف احد المراجع ايام العطل وعندما تسنح الفرصة.

وعندما زرته على العادة حيث كنت اتردد على مجلسه في بعض الايام قبيل صلاة الظهر لانه كان يستقبل بعض محبيه من رجال الدين يتداولون الحديث قبل ان يذهب بعضهم معه ليؤدوا خلفه صلاة الجماعة وبالصدفة لم يكن عنده احد وفوجئت انه اول وصولي نادى على ولده - وهو يعلم اني لا اشرب القهوة وكنت اتحاشى شرب القهوة في المجالس لان الفنجان يدور على الجماعة من اول الجلسة الى اخرها وربما لليوم الثاني دون ان يغسل .
وعندما حضر ولده امره بلهجة صارمة ان يجلب عبائة البريمي وهي مصنوعة من وبر الجمال وفيها النوع الجيد نسبيا حيث ان الوبر المستعمل مصفى وعلى لون واحد ويلبسه غالبا الطلبة الافغان والبربر ، والنوع الاخر الردئ الذي استعمل في حياكته فضلات الوبر وغالبا ما تكون مشطبة بالوان مختلفة يختلط فيها الابيض بلون قاتم اخر او عدة الوان قاتمه ولايلبسه عادة الا البدو الرحل والمعدمين من طلاب الدين وغيرهم وعندما احضر العبائة وجدتها من النوع الثاني ووجه الخطاب لي بلهجة غاضبة ان هذا يرفض ان يلبس هذه العبائة وطلب مني ان افهمه بانه لاينبغي ان يأنف من لبسها . واني وان احرجت الا انني تماسكت بعد فترة هدوء وقلت له شيخي المفروض ان يلبس ما يلبس اقرانه وزملائه ومعارفه ولااعرف اي واحد من هؤلاء يرتدي مثل هذه العبائة ، فرد علي انه يلزم ان يتطبع على ذلك ليكسر شوكة نفسه وليصبح من الرجال الاخيار المقدسين وضرب لي مثلا احد المقدسين المعروفين وقال انه لم يكن كذلك في بداية حياته ولكنه طبع نفسه على الزهد وحتى صار يشار اليه بالبنان ، فاجبته باني لااستطيع ان اطلب منه ذلك لاني البس عابة (فاصونه) وربما كان سعر المتر الواحد منها اغلى من هذه العبائة وفي اثناء حديثي اشرت الى عبائتي واشرت الى عبائته ايضا لانه هو ايضا كان يلبس عبائة تشبه العبائة التي البسها ويبدوا انه انتبه الى مقصودي فغير مجرى الحديث.

وكان نتيجة هذه التوجيهات التي يستشم منها رائحة النفاق - وربما لم يكن يقصد ذلك ولكنه لم يحسن التعبير فبدل التطبع لو استعمل مثلا ترويض النفس وكسر جماحها وبلهجة لينة ليس فيها غضب وتانيب لكان رد فعل ولده هذا واولاده الاخرين الذين انحرفوا او تطرفوا ولم يخرجوا عن سلك رجال الدين فقط بل اصبحوا شيوعيين متطرفين وسجن يعضهم.

وقد سردت كل هذه الوقائع لاعطي صورة اقرب الى واقعية سلوك وتفكير المتدينين في تلك الفترة وان كانت بعض الافكار لاتزال كما هي لم يطراء عليها الا تغيير جزئي.

لذلك لم يستطع العلامة المظفر ولم يكن في مقدوره ان يغير تغييرا ملموسا في كثير من القضايا الجوهريه التي كان ينادي بها بصوت خافت احيانا بين طلابه وزملائه من الاساتذه وبصوت صارخ وعالى احيانا اخرى . الا انه وفق ولاشك الى ان يبذر البذرة الاولى للتغيير واعادة النظر في النظم والسلوكيات ولابد ان تثمر ثمرتها قصر او طال الزمن . ولابد لمن يريد ان يتعرف على عمق الافكار الاصلاحية لدى الشيخ المظفر والتي تنال جذور الهيئة التدريسيه ومناهجها وتحاول تغيير اصول وهيكل المرجعية ومسؤلياتها وصلاحياتها وطريقة اختيارها اواسلوب ادارتها للطائفة الشيعيه التي لايقل عددها عن ربع مسلمي العالم ولو قدر لها ان تسير سيرها الصحيح وتستغل ما لديها من امكانات وخصوصا المجالس الحسينيه التي تعتبر مدرسة سيارة ووسيلة اعلام مثاليه لها من الاضواء وبها من القدرات ما تستطيع ان تزيد عدد افراد الطائفة الى اكثر من الضعف اذا ما هيئت طبقة مثقفة واعية تتجنب الخرافات والزوائد والمبالغات والاكاذيب الباطله التي تضفي غشاء اسوداً على معتقدات الشيعة خصوصا اذا التزمت - في سلوكيتها وفي مجالس الخطابة والوعظ عندها في المناسبات الدينيه على مدار السنه - بالاسلوب العلمي والحجة الدامغة التي تهيئها له كتب الاحاديث المتفق عليها عند عامة المسلمين.

اجل لابد لمن يريد ان يتعرف على ذلك ان يدرس حياة العلامة المظفر ويجمع محاضراته واحاديثه الخاصة ويتعرف على اسلوب تفكيره اذ لم يكن في المقدور كما اسلفت ان يجهر ويكتب كل مايدور في مخيلته ، والا لنسفت مشاريعه من اسسها واقرب شاهد على ذلك هو: ما فكر به الشيخ المظفر قبل الشيخ المطهري وغيره في المجالس الحسينيه وكيفية تهذيبها لتصبح منارا ومدرسة تخترق عقول وقلوب غالبية المسلمين الذين يتوقون الى ان يكونوا الفرقة الناجيه ويسلكوا الطريق السليم الذي خطه لهم الرسول الاكرم واراده لهم . لذلك اسس كلية باسم كلية الخطابه واختار لعمادتها ابرز الخطباء وانزههم الشيخ محمد علي قسام واسرع في الالتحاق بهذه الكلية الزمرة المثقفة والواعيه من الخطباء الا ان ذلك لم يرق زمرة ... والتي خشيت على مركزها وموقعها وفي مقدمتهم .... وكان يعتبر اصلا ان جمعية المنتدى ومؤسسها منافسا قويا لانه هو ايضا يراس جمعية ادبية ولكنها لاتملك الاضواء التي تتمتع بها جمعية منتدى النشر والمكانة المرموقة التي يمثلها مؤسسها . ولم يكن امام الشيخ ... لاجل افشال مشروع كلية الخطابه الا ان يمارس سلوكية التهريج ويستفيد من جهل العامة ويستعين بالتقاليد والاعراف الباليه وهو كخطيب معروف وله مكانته ويتقن فن التاثير على الناس والعامة بالخصوص وخصوصا اذا لم يتحرج من سوق الاكاذيب والاتهامات والقدح و... فاستغل احد الشقاة المدعو ... واستغل عصابته وبطانته واخذ يتهم هذه الكلية الجديده والزمرة المنتمية اليها بانهم يريدون ان يحطموا المنبر الحسيني وللمنبر الحسيني قدسية عظيمة في نفوس عامة الناس بما فيهم الطبقة المثقفة فضلا عن العامه التي تتمسك بكل الشعارات حتى الباطلة منها والدخيلة.

والطريف في هذه المناسبة ان الصحفي محمد حسن الصوري كتب في صحيفته (( النص في الهامش )) يسخر من المحرضين بعد ان نجحت الحملة المضللة واضطر الشيخ المظفر ان يلغي تاسيس الكليه بعد ان سير الشقي .... مظاهرة من عدة اشخاص من عصابته اجتاحت شوارع النجف واسواقها تهدد بالويل والثبور وبتر دابر هذه الزمره التي تريد ان تخرج عن المالوف وتضع قيودا وقواعداً تحد من المجالس الحسينيه وتشترط لمن يرتقي المنبر مواصفات خاصه وتلزمه بمنهج خاص فلايجوز له مثلا ان يقول ابن سعد وعليه ان يعبر عنه " الجنرال ابن سعد " و... و... ! وقد اضطر كل المؤسسين والمنتمين ان يلزموا بيوتهم خشية ان ينال منهم الغوغاء ولم يجرأ على الخروج ومجابهة الجماهير الغاضبه اوبالاحرى عصابة الشقاة سوى المرحوم العلامه الشيخ محمد الشريعه الذي كان يومها عميد كلية الفقه والشخص الثاني بالجمعيه بعد العلامة المظفر وشيخ الشريعه بالاضافة الى انه جرئ فقد كان يحميه ما يحمل الناس والنجفيون بصورة خاصه للمرحوم والده شيخ الشريعه قائد ثورة العشرين من تقدير واكبار بالاضافة الى ان عديله من شيوخ النجف الذين لهم قوتهم وهيبتهم وانصارهم مما يلزم الشقاة ان يحسبوا الف حساب قبل الاعتداء عليه . وقد كانت الخطة الى رسمها الشيخ الخطيب المعارض ان يثير الموضوع باسلوبه الخاص في مجلس السيد حسين نجل المرجع الكبير المتفرد بالزعامة في حينه اية الله السيد ابو الحسن الاصفهاني وكان المفروض ان يرتقي المنبر حيث كانت مناسبة دينيه وكان هو الشخص الموكول اليه ارتقاء المنبر . وقد تنبه العلامه الشيخ محمد الشريعه الى المخطط الخبيث حيث لو نال في مجلس نجل الاصفهاني كلية الخطابه سيعتبر ذلك تاييداً ضمنيا من المرجع الاعلى السيد ابو الحسن وعندئذ ستنطلق العصابه وتشتد شوكتهم ويحطموا حتى الجمعيه على رؤس اصحابها خصوصا انه اغتنم فرصة سفر الشيخ المظفر الى بغداد الشخص القوي الذي تهابه وتحترمه العامه . فما كان من شيخ الشريعه الا ان حضر المجلس وجلس الى جانب نجل اية الله الاصفهاني وافشل بذلك الخطه ، اذ انه لما رقى المنبر تلجلج وخشى انه لو تعرض للكلية او اصحابها بسوء ان يرد عليه نجل السيد او شيخ الشريعة وعندئذ ينقلب السحر على الساحر ويفقد وزنه وتذهب جهوده والضوضاء الذي اثارها تنعكس آثارها السيئة عليه . وعندما عاد العلامة المظفر من بغداد وراى وسمع الهرج والضجة وخشية كل المنتمين لكلية الخطابه بما فيهم المؤسسين من مغادرة منازلهم ارتأى من الاصلح ان يطأطأء راسه ويلغي فتح الكليه لحين ما تمر العاصفه ، الا ان العلامة شيخ الشريعه كان رايه الاصرار والمثابره ومجابهة المعارضين وفضح اساليبهم - وربما كان رايه هو الاصوب - وعندما اصر العلامة المظفر على رايه خشية ان يحدث مالايحمد عقباه استقال شيخ الشريعه وغادر النجف الى سامراء للأستجمام مما اصابه من جهد اثر على صحته ونشاطه فلم يحتمل نكسة الفشل اخيرا ترك العراق الى الابد وانتقل الى طهران ومنها الى باكستان ومات هناك بعد فترة طويله.

لقد سردت بعض الحوادث لاعطي صورة توضح لجيلنا الحاضر ما كان يلاقيه المصلحون وبالخصوص العلامة المظفر من ظروف قاسيه تتركه يفكر عشرات المرات قبل ان يقوم بأي عمل اصلاحي ينال عادات وتقاليد ومفاهيم المجتمع وان يخفض من صوته قدر الامكان حتى بعض الاحيان في المجالس الخاصه عندما يشير ويضع اصبعه على مواضع الخلل او يقدم الحلول الناجحه ، ولكنه مع هذا كان يقول كلمته ولكن دون شدة او عنف و ينتقد النقد الذي يلزم ولكن بلطف أملا في عودة المضللين الى صوابهم وليوضح عمق الداء المستفحل ، دون ان تيحدي بعنف المفاهيم السائدة والراسخة وكانها جزء لايتجزاء من الدين والخروج عليها ان لم يكن كفرا فهو فسوق والمتجاهر بالفسق يستحق النبذ والمحاربه ، لذلك لم يكن في وسعه ان يجاهر بصلابة ويحارب بعنف ليشق طريقه الى اصلاح الوضع . والان وبعد مرور عشرات السنين لاادري هل كان راي العلامة المظفر هو الصواب او ان الصواب كان مايدور في خلد العلامه شيخ الشريعه من مقارعة المخربين وشق الطريق بالعنف والمجابهة لان ذلك اقصر طريق لازالة العوائق ونشر الافكار السليمة لتاخذ مكانها بدل الجمود والتخلف ... ولا ادري ما كان سيحدث لو ان العلامة المظفر سار على ما رسمه شيخ الشريعه واقتنع برايه.

لقد رسمت صورة قريبة جدا للواقع السائد في حينه والافكار والتقاليد والمفاهيم المسيطره وعلى القارئ ان يستنتج هو ويستخلص الحقيقه واي كان فان ما حدث ان كلية الخطابة الغيت ولم تقم حتى يومنا هذا رغم ما قيل وكتب عن الاتجاهات الخاطئة والمفاهيم المغلوطه التي يركزها كثير من خطباء المنبر الحسيني التي تسيء الى سمعة الطائفه لابالنسبة الى اعدائها فحسب بل بالنسبة الى كثير من ابنائها الواعين مما يزيد الجهلاء جهلا والمثقفين نفورا ومما يفقدها اهم مهمة ملقاة على عاتق الخطباء وهو تنوير العامه ليزداد عدد المثقفين الواعين وليجلب للطائفة الكثير من ابناء الطوائف الاخرى عندما يبين الحق لذي عينين كما يقولون.

ولنعود الى صلب الموضوع وهو الجانب المهم من افكار العلامة المظفر في اصلاح وضع المرجعيه الدينيه للطائفه مع اعطاء صورة عن الوضع القائم انذاك وربما لايزال القسم الاكبر منه سائدا حتى يومنا هذا ولا اعتقد ونحن في اواخر القرن العشرين والعالم قد تقدم في جميع نواحي الحياة واساليبها ان اسلوب التدريس هو اليوم افضل من قبل عشرة قرون مضت اذا لم تكن قبل ذلك افضل منها اليوم للضوابط الاجتماعيه والاخلاقيه التي كانت تهيمن على نواحي كثيره من حياة رجال الدين.

ان الطالب الذي يلتحق بالحوزة يبدا يدرس المقدمات المطلوبه من فقه واصول الفقه واللغه والحديث والتفسير ضمن حلقات تقام في المدارس والجوامع او بصورة فردية او شبه فرديه عندما يتفق اثنان او ثلاثه او اكثر ويختارون استاذا ليدرسهم في زوايه احد المساجد او في ركن من اركان صحن الروضه العلويه او في ايوان من اواوينها او في دار الاستاذ نفسه او في دار احد الطلاب وفي كل هذه الصور يستوي الطالب المجتهد والخامل والذكي والغبي دون تمييز لانه ليس هناك اي اختبار او محاسبة او مراقبه.

والطالب هو من يختار الاستاذ والكتاب الذي يدرسه او يلتحق باي دورة قائمة دون اعتراض لامن الاستاذ ولا من الطلاب . واذا ما تخلف في الفهم والاستيعاب عن رفاقه واخذته العزة بالنفس وعدم اعترافه بالفشل او التقصير انتقل معهم الى المرحلة التاليه رغم انه لم يستوعب دروس المرحلة التى اجتازها كلها اوجزءا منها وبالطبع ومن البديهي انه لايستطيع استيعاب ما يلقى عليه اللهم الا ما يتعلق بحفظ وترديد بعض الاصطلاحات دون فهم وهكذا ينتقل من مرحلة الى اخرى الى ان يصل الى مايصطلح عليه بدرس الخارج حيث يحاضر احد المجتهدين الكبار في الفقه او الاصول او التفسير وغير ذلك بصورة استدلاليه عميقه تعتبرالمرحله الاخيره لتقدير المجتهدين ومنحهم درجة الاجتهاد . واذكر بالمناسبة للنكتة ان احد اولاد العلماء كان يحضر درس المكاسب وهو من الكتب التي تدرس في المراحل النهائية قبل الانتقال الى الدرس الخارج ، سئله احد زملائه : - كيف تحضر درس المكاسب وانت بعد لم تدرس المقدمات الاوليه مثل المختصر للعلامة الحلي والاجرمية في القواعد ؟ فكان جوابه اني احضر درس المختصر فلا افهم منه شيئا واحضر درس المكاسب ولا افهم منه شيئا . ولكن لئن يقال يحضر درس المكاسب ولايفهم خير من ان يقال يحضر درس المختصر ولايفهم منه شيئا.

وبعض الطلاب يقضون عشرات السنين ينتقلون من مجموعة لاخرى ومن مرحلة لاخرى وهو لايزال في الفهم والاستيعاب يتراوح في المراحل الاولى ويتقاضى ويستهلك من الحقوق الالاف دون ان يتقدم في دراسته حتى لمرحلة واحدة او لسنة واحدة . ثم هو بعد ذلك يسافر الى النواحي والاطراف باعتباره عالما قد درس في النجف الاشرف مركز العلم والعلماء سنوات طويله . يسافر لاليقوم بالتبليغ والارشاد - رغم انه غير مهيئ لذلك علميا ونفسيا واذا ما استفتي في مسئلة فكثيرا ما يفتي بما لايعلم كما انه يعالج المسائل الاجتماعيه بما يتفق مع مصلحته وما تقتضيه المجاملة لشيوخ المنطقه او مايلائم العرف والتقاليد وان كانت خلاف الحقيقة وخلاف تعاليم الدين الحنيف - . بل ليجمع الحقوق الشرعيه والهدايا التي يعيش عليها رجال الدين وطلابه لانه موردهم الوحيد وقد يجمع بعضهم ما يهيئ له عيشة هنيئة من دار ورياش وملابس جديده وسفرات ونزهة و ... وقد يكون نصيبه عدة اضعاف اقرانه من الجادين والمجتهدين في طلب العلم ويواصلون الدرس والتدريس والتاليف طوال حياتهم ويقبضون النزر اليسير الذي قد لايسد بعض الاحيان الرمق متحملين شظف العيش وخشونته في سبيل تادية رسالتهم وعندما ينتقل هذا المنخرط في سلك طلاب الدين وهو في الحقيقة ليس منهم يخلف لورثته دارا ورياشا و... قد تجمعت كلها من الحقوق الشرعيه يخلفها لمن لايلتزمون حتى يالصلاة الواجبه وكثيرا ما يكونون داعية سيئة للاسلام بما يحملون من افكار وسلوكيه تخالف منهجه وهذا لاينطبق على هؤلاء الطلاب بالزي والاسم فقط فهناك الكثير ايضا من الطلاب المجدين والذين قد وصلوا الى مراحل متقدمة وربما نالوا درجة الاجتهاد وقاموا بواجبهم في التدريس والتاليف والارشاد ولكن لم يشاؤا ان يوجهوا ابنائهم او لا اقل واحدا منهم للدخول في سلك طلاب الدين او لم يجدوا فيهم الرغبة لذلك وقد يسيروا في حياتهم مسلكا متناقضا ومناهضا للمسلك الذي نشاء عليه اباؤهم وهم ايضا سيرثون الدار والاثاث و و ... في حين ان هناك الكثير من الفضلاء ورجال الدين النابغين يعجزون حتى عن تسديد ايجار دار تحفظ لهم كرامتهم.

الم يكن من الافضل ان تنشأ دور تشرف عليها المؤسسات الدينيه يسكن فيها رجال الدين كل حسب مكانته وعدد افراد عائلته دون ان يدفع ايجارا ويسكن فيها ورثتهم اذا ما كانوا قاصرين او كان من يعول بهم من طلاب العلوم الدينيه.

ان هذه احدى السلبيات التي كان يتعرض لها العلامه المظفر ويقترح بعض الحلول او لا اقل مناقشة الموضوع لايجاد الحل الصحيح . وقد يكون من الصحيح والنافع ان رجل الدين الذي لايرغب اولا يرغب اولاده ان يدخلوا في سلك رجال الدين قد يكون من الصحيح لو وجهوا الى اي اختصاص اخر مع الاحتفاظ بعقائدهم وسلوكهم وبقدر مناسب من المعلومات والتوجيهات الدينية . فالطبيب او المهندس او الكيميائي او الصيدلي من هؤلاء يستطيع ان يخدم الدين واهله بسلوكه المستقيم ، ويا حبذا لو توسعت الجامعات الدينيه بفتح فروع لجميع الكليات العلميه علما بان كلها او بعضها لااقل تعلمه وممارساته واجب كفائي . الا ان الملاحظ مع الاسف - ان كثير من اولاد العلماء وخصوصا الفترة التي اتحدث عنها - يعتبرون من المارقين والناقمين اما لانهم يشكون في سلوكيه ونزاهة ولي امرهم فيما يلاحظون من فجوات يشتم منها النفاق او لان الشذوذ في التربيه والتعسف والزامهم بسلوكية لاتلائم وضعهم وسنهم وكانها من ضروريات الدين وواجباته مما يدفعهم الى النقمة والتطرف أو لتأثير موجة التطرف اللاديني التي كانت تشجعها جهات معينة في ذلك العهد واما لامور الاخرى تتعلق غالبا بمفاهيم محيطهم وسلوك اولياء امورهم في معاملاتهم شدة ولينا.

وهناك نقطة حساسه اخرى كان يشير اليها دائما العلامه المظفر ويركز عليها بشكل يحس بانه كان يعاني من مرارة شديده منها ويعتبرها عائقا مهما عن اطلاق حرية رجل الدين نفسيا ليقوم بنشر ما يراه ويعتقده بصراحة ودون ممالات او مجاملة ، كما انه يؤثر كثيرا على كرامة رجل الدين ومقومات شخصيته.

وتتعلق هذه الظاهرة في طريقة منح رجال الدين ما يحتاجونه لتمشية امورهم المعاشيه فهي لم تبنى عل اساس ما يقومون به ويقدمونه كطلاب او مدرسين او مبلغين ، وانما يعطون من الحقوق والتي يعتبرها العرف كصدقات سواء من اشخاص تربطهم بهم علاقات خاصه او من جهات كذلك تربطهم غالبا علاقات خاصه . فلذلك يشعر رجل الدين انه مدين دائما لجميل من يقدم لهم ذلك ويضطر غالبا لمجاملته وقد تخرجه عن مهمته وواجباته وفي نفس الوقت يشعر عند اخذها بخدش كرامته ومهانة لنفسه التي يجب ان تكون اعلى واغلى من ذلك كثيرا ولا تسد المهانة التي يشعربها تقدير واحترام من يقدم له ذلك . وبعض الاحيان يقبل يده ايضا حسب العرف الجاري في احترام رجال الدين . ( وبمناسبة تقبيل اليد العادة الجارية والمتبعة من العامة الى كل رجال العلماء ورجال الدين ، اتذكر انني التقيت بالعالم الرباني السيد ميرزا على القاضي المنفرد في زمانه في محاضراته عن العرفان وقد تتلمذ عليه وحضر مجالسه الكثير من العلماء والمراجع وهو والد زميلي وصيديقي السيد محمد حسن القاضي ، التقيت به صدفة في الطريق وكان يسير وحده على غير عادة كشير من العلماء حيث كان يرافقهم اكثر من واحد . وكثير من تلامذته ومريديه كانوا يتمنون مرافقته الا انه لم يكن يرغب في ذلك.

قلت التقيت به في الطريق واخذت يده لاقبلها الا انه جذبها بقوة وقال لي مبتسما تصافح هكذا ، وقد أثر في نفسي سلوكه هذا تاثيرا كبيرا ، ولايخطر ببالي اني اخذت يد احد من العلماء - او احد من اقاربي من الفضلاء - لاقبلها فرفض.

والمقولة المعروفه على لسان المظفر اني لا أغبط اي رجل دين على أي مبلغ يحصله وعلى اية رفاهية ينعم بها . ويضرب العلامه المظفر مثالا على ذلك ان موظفي الدوله بما فيهم زمرة التعليم والطلاب الذين يتقاضون منحا دراسيه لايشعرون باية مهانة لكرامتهم وقد يشعرون ان بعض حقوقهم مغموطه اذ يتقاضون اقل مما يستحقون نظرا للجهد الذي يبذلونه والخدمه الهامه التي يقدمونها ، كما ان المجتمع كذلك لاينظر اليهم نظرتهم الى المساكين الذين يعيشون على الصدقات والمساعدات رغم انهم يبذلون غالبا جهدا قد يفوق الطبقات الاخرى من موظفي الدولة على اختلاف طبقاتهم وواجباتهم علما بان المبالغ التي تدفع لهؤلاء الموظفين والمدرسين هي حصيلة الضرائب والرسوم التي تاخذها الدولة من الناس وتؤخذ غالبا دون رضاهم وربما مع سخطهم ونقمتهم . والحقوق الشرعيه هي كذلك ضرائب دينيه لكنها تقدم دون اجبار وبرضى نفسي كامل.

فلو شكلت المراجع الدينيه هيئة خاصة تتولى شؤن الناحية الماليه ، تجمع الحقوق والتبرعات ممن يقدمها ثم توزعها على الطلاب والمدرسين والمبلغين حسب شهاداتهم العلميه وكفاءاتهم كرواتب واجبة الدفع دون اية ملاحظات او علاقات شخصيه او اي ارتباط بهذه الجهه او تلك اللهم فقط تخصص اضافات لافرادالعائله وتقديم المساعدات الخاصه في حالة المرض والمهمات الاخرى كما هو المعمول في كثير من الدول بالنسبة الى موظفيها.

وفي هذه الحاله لايضطر اي من رجال الدين لمجاملة اي شخص او اي جهة على اساس مبادئه وحتى دون ان يحسب لاي كان اي حساب ودون ان يخشى ان يفقد ما يحتاجه وقد ما يسد رمقه ودون ان يشعرباية مهانة تفقده كرامته واعتزازه بنفسه . وفي نفس الوقت تتقلص او تذوب الطبقة المتطفلة على طلاب العلوم الدينيه ورجاله والذين يستهلكون اكثر الموارد التي تجمع وترد من الحقوق . ستذوب او تتقلص الطبقة الكسوله والمتطفله بعد اخضاعها لضوابط دقيقه بالنسبة الى المراحل الدراسيه التي يجب ان يجتازها والواجبات الهامه التي يقوم بها ليستحق ما يمنح من رواتب او منح . وبهذه الطريقه واتخاذ هذا الاسلوب الجاد والجدي ستختلف كثيرا نظرة عامة الناس او غالبيتهم بالنسبة الى رجال الدين عندما تغربل ويخرج الكسول الفاشل والمتطفل الذي لايحمل من مبادئ الدين ورجاله شيئا ولا يميزه عن عامة الناس سوى اللباس الذي يخدع به الكثيرين ويشوه سمعة المجموع . كما ستحد من الاشخاص الذين يتخذون من السفر الى مناطق معينه لجمع الحقوق والصدقات والتبرعات وهم صفر اليدين من اية مقومات وكفاءات ومعلومات تخص رجال الدين وغالبا ما يفتون بغير ما انزل الله لجهلهم ولانهم لايستطيعون الامتناع عن الاجابة ، او الاجابة - بلا ادري - وهي نصف العلم كما يقولون ، لانهم سيفقدون مكانتهم ويخسرون ما تجشموا السفر لاجله . وقد يفتون في بعض الاحيان بما تقتضيه مصلحة الشيخ او التاجر الذي ياملون ان ينالوا منه نصيبا . او صاحب جاه الذي ياملون الاستفادة من جاهه بتوسطه للاخرين او لانهم في ضيافته ويخشون ان يخسروا تقديره واحترامه وحسن ضيافته...

وليحتفظ رجال الدين الحقيقيين بكرامتهم فلا يضطرون للسفر لجمع الحقوق ولا يضيعون وقتهم الثمين اشهرا في السفر والتسكع.

وباختصار لو عينت المراحل الدراسيه ومناهجها بصورة دقيقة ومنظمة واخضع الطلاب لاختبارات خاصه تخولهم الانتقال من مرحلة لاخرى ويمنحون شهادات تخرج وتخصص وتقدير كفاءات ويعين الذين يجتازون مراحل تهيئتهم للارشاد والخطابه او التدريس او التعيين في القرى والارياف كائمة جماعه ومرشدين يعلمون الناس معالم دينهم عملا بالاية الكريمه ( فلولا نفرمن كل فرقة طائفة منهم ليتفقهوا في الدين ) مع تعيين رواتب تهيئ لهم حياة كريمة دون بذخ واسراف وابقاء الطبقة العليا التي تريد الاستمرار لتصل الى درجة الاجتهاد في التخصص في البحث والتدقيق واعطائهم الامتيازات التي تساعدهم على الوصول الى الغاية المطلوبة.

لو حصل كل هذا سيكون لجامعة النجف موقعها الممتاز في العالم الاسلامي ويتضاعف عدد المنتمين وعدد المتخرجين وسيقومون باداء رسالتهم على الشكل الاكمل والافضل وسيكونون واجهة دعائيه هامه للاسلام وللطائفه . وعلى هذا الاساس كنواة اسست جمعية منتدى النشر مدارسها وكلية الفقه وخطت خطوة وان كانت قد افشلت بالنسبة الى كلية الخطابه ولو استمرت الامور على ما خطط لها لتبعها كليات اخرى ودراسات عليا .
وهناك نقطة حساسه اخرى ربما كانت تستشف من احاديث وملاحظات العلامه المظفر دون التصريح الشافي عنها وهي ان اسلوب حياة طالب الدين والتي تعتمد على المساعدات الخاصه من افراد ومؤسسات والتي تترك اثرها السئ في ضعف شخصيته واندفاعه بشكل لاارادي في تقييم المفاهيم والقيم وتقاليد المجتمع دون التمييز بين الصحيح من المغلوط ومنها ملاحظة العواطف الخاصه للافراد والمجتمع ومحاولة التمشي معها مع الحفاظ على موقعه حفاظا على مورد رزقه وتسير مع الطالب في جميع مراحل حياته حتى اذا ما وصل الى القمه تؤثر عليه احيانا تاثيرا لا اراديا حتى عندما يكون في استطاعته التغيير ولايكون للمجتمع أي تاثير عليه . وربما هذا ما يفسر ممالاته وهو في مركز القوة في السكوت احيانا كما في موضوع بعض الشعارات الحسينيه المغلوطه ، او الالتجاء الى الفتوى بالاحتياط كما في كثير من المواقع كستر الوجه والكفين و...

واذ ا ما صح هذا التفسير - وربما يكون صحيحا لحد كبير - فسيعتبر العائق الاول دون الاصلاحات المنشوده والمطلوبه في جميع الامور التي تتعلق بامور الحوزة وبالتطور الطبيعي لشؤن الطائفه والتصحيح الجرئ لكثير من الفتاوى تماشيا مع روح العصر والفهم الصحيح والدقيق للتعاليم الدينيه كما اشرنا الى بعض منها .
وقد كان في تصور العلامة المظفر ان الطريق الاسلم - وان كان طويلا - هو تهيئة طلاب من البدايه يتشبعون بهذه الافكار الى ان يصلوا الى القمة والمرجعيه وعندها يكونون مطلقي اليد في التعبير والافصاح عن ارائهم بجرأة وواقعيه دون ان يخشون المجتمع ودون ان يحسبوا للتقاليد اي حساب . وكان يشكو من ان الكثير من المرشحين للمرجعيه يتبنون هذه الافكار ويتجاوبون معها بايجابيه تامه ويقرون بضرورتها الا انهم عندما يصلوا الى المرجعيه يديرون ظهورهم لكثير منها ، وهو وان لم يشر الى اشخاص بعينهم الا انه يبدو انهم من المعاصرين الذين كانوا يتداول معهم الاحاديث ويبحث المشاكل قبل ان يصلوا الى السلم الاخير.

وهنا لابد من الاشارة الى ان الوصول للمرجعيه ايضا لايسير سيره السليم مائة بالمائه وان كان هو اسلم كل الطرق التي تسلك في الوصول للمركز الاعلى في جميع انحاء العالم وما يسمى بحرية الراي والانتخاب الديمقراطي ... الا انه لايخلوا ايضا من بعض الشوائب ، فان اختيار مرجع التقليد وان كان يتم بقناعة واختيار من المقلدين دون اي ضغط معتمدا على رأى ذوي الخبرة والشياع المفيد للعلم ليتعين الاعلم والاكثر فهما لمقاصد الشارع من بين الاحاديث المتناثره معتمدا على الاساليب العلميه في البحث والتدقيق الا انه كثيرا ما يكون للحاشيه من الطلاب والمنتفعين والاقارب في بعض الاحيان تاثير كبير في رفع شان هذا المجتهد وتقديمه على ذلك ، او الحط من منزلة اخرين ، وهذا وان كان يتم دون اي تدخل من جهة اجنبيه او محليه وربما بصورة تلقائيه الا ان مباركة الجهود من قبل المرشح نفسه يلعب دورا كبيرا في ذلك وغالبا ما يكون باعتقاده انه الافضل والانسب لقيادة الامه . لذلك الاشخاص الذين يزهدون في هذا المنصب او لايريدون ان يخطوا خطوات في الطريق اليه او لم تهيئ لهم الامور من حاشيه ومؤيدين يبقون يتراوحون في موقعهم مهما كانت درجتهم العلميه وكفائتهم . ولا ننسى الحادث القريب عندما توفي الامام الخوئي وكان من ابرز المرشحين ليكون خليفته هو آية الله السبزواري وحاول حاشية بعض المرشحين الاخرين ممن كانوا يخشون من صلابة آية الله السيزواري وعدم مساندتهم في بعض مشاريعهم ، فما كان منهم الا ان اشاعوا وبشكل علني بان السيد السبزواري لايصلح للتقليد لانه قد فقد ذاكرته واصيب بمرض الشيخوخة واستدلوا على ذلك بانه لم يتعرف على احد اولاد السيد الخوئي وقد ظهر بعد ذلك ان كل ذلك تخريف وتهويش لاجل صرف الانظار عن تقليده.

وعندما لوحنا للعلامة المظفر انه ربما كان من الافضل له بدل بذل هذا الجهد المظني في التاسيس والانتظار الطويل لو انه استمر على وضعه في الدرس والتدريس ليحتل هذا المركز الاول ويقوم بالتغيير والاصلاح تدريجيا ، الا انه يبدوا انه لم يكن واثقا من ذلك اولأنه يشك بقدرته او رغبته في السلوك الدعائي المطلوب ليصل الى القمه ، او ان ذلك غير مضمون بالنسبة له كفرد كما انه يلزمه ان يتطبع على سلوكية قد لايستطيع التطبع عليها وذلك بان يخفي جميع نواياه في التغيير ولكنه في هذا السلوك بفتح كليات ونشر الافكار وتهيئة مجموعة من الطلاب يحملون هذه الافكار الاصلاحيه بفهم عميق واحساس دافئ لان يصل احدهم على المدى البعيد الى القمة ويسانده الاخرون الذين يحملون نفس الافكار ويسيرون في نفس الاتجاه ستكون النتيجه اكثر ضمانا .
وقد يكون اللذين وصلوا الى القمه وقل تحمسهم للتغيير الذي كانوا يؤيدونه هي الحاشيه التي لم تستطع ان تفهم او تهضم ضرورة التغيير والتصحيح وربما لم تكن تنتبه الى الاخطاء الموجودة جهلا او تعصبا او تمسكا بالتقاليد او انهم يغمضون عيونهم تعمدا خشية على مراكزهم او منافعهم . وهذه الحاشيه لها تاثيرها الفعال بالنسبة الى المحيط والعامه بالخصوص وباستطاعتهم ان يحاربوا من يحاول التصحيح ولو جزئيا بكل قواهم كما لاحظنا في موضوع انشاء كلية الخطابه وكيف اضطر المظفر الى غلق الكلية رغم ضرورتها في ذلك اليوم وفي يومنا هذا ورغم ان المنتمين اليها كلهم ممن لهم مقامهم وحسن سمعتهم في المجتمع ومع هذا استطاعت الاغراض الخبيثة وبقيادة واحد لف حوله جماعة وجمع بعضهم بالخداع والاخرين انجروا بحكم خشيتهم على مصالحهم ومقامهم وان كان ذلك وهما استقطب مخيلتهم فما كان ذلك لو حصل كان يهدد اي شخص . فاذاً لايمكن التصحيح الا اذا كان من يصل الى القمة يكون قد جمع وحشر حوله جيشا ممن يؤمنون بضرورة التغيير والتصحيح ليكونوا له عونا وليسدوا افواه المغرضين ويشلوا ايديهم.

ومن الصعوبة بمكان تقييم ما كان الاصلح في تطبيق كثير من الامور والممارسات والاراء . والحقيقه في نفس الجمعيه كان هناك تباين في كثير من الاراء او بالاحرى في اساليب التطبيق وبالنسبة الى الامور التي يجب ان تنالها يد الاصلاح اولا في حين لايوجد اي اختلاف في الصورة المشرفه التي ترسم للاصلاحات ولا اي غموض في الصورة المعتمه التي كنا عليها ولانزال نعاني منها ، انما الاختلاف الذي كان يبدو واضحا بين العلامة المظفر والعلامة الشيخ محمد الشريعه رغم العلاقات الحميمه التي تربطهما اضافة الى انهما متجاورين في المسكن فلا يفصل بين منزليهما سوى بضعة امتار ورغم انهما على اتفاق تام في الامور وفيما يجب ان يكون الوضع في المستقبل الا انهما يختلفان اختلافا جذريا في الاسلوب الذي يجب ان يتبع والطريق الذي يجب ان يسلك في تحقيق الاهداف ، ففي الوقت الذي يرى العلامه الشريعه المجاهرة بالاهداف او بالاحرى الوقوف بقوة وشدة وثبات بالنسبة الى الخطوات الاصلاحيه التي تقدم عليها الجمعيه دون اي تراجع ومجابهة اي قوة تقف امامها بما يتاح للجمعية من حشد المؤيدين ومقارعة الحجة بالحجه والاعتماد على الطبقة الواعية والمخلصه وتحدي المتحدين بالاساليب المتاحه ايضا واعتقاده انه بهذه المجابهة ستنسحب المعارضة نظرا لضعف حجتهم اولا وضعف مراكزهم ثانيا و جبنهم من المقارعة والمصادمة اذا ما جوبهوا بصلابة وقوة تفضح اساليبهم واغراضهم وتعريهم وهم اجبن من ان يجازفوا بمراكزهم ومصالحهم المادية والمعنويه لعلمهم بعدم صدق نواياهم ، وقد بدا ذلك واضحا في مجابهته وتحديه للحملة الظالمة التي شنها اؤلئك الذين وقفوا ضد كلية الخطابه وكان على وشك ان يعيدهم الى جحورهم خائبين.

في نفس الوقت كان العلامة المظفر يرى ان هذا التحدي قد يقضي على الجمعية ويضطرها الى الاغلاق خصوصا وان السلطه الحكوميه لم تكن ترتاح لها ولاتريد اي اصلاح للوضع الديني والطائفي مما يزيد في قوتهم وهو ما تخشاه السلطه ، وهي انما وافقت على تاسيس الجمعية وكليتها واعطائها بعض الامتيازات كالاعتراف بشهادة الكليه انما فعلت ذلك مجاملة للسلطة الدينية . ولذلك بمجرد ان عرفت ان الجمعيه لاتحتل المكانه التي كانت تخشاها او ترجوها وعندما لم تخضع لبعض مطالب السلطه بادرت بسحب الاعتراف دون اي مبرر
ولا ادري اي وجهتي النظر كانت اصح ، وان كان يبدو لنا نحن الطلاب المتحمسين للاصلاح والتغيير مندفعين بحرارة الشباب وجرأته ان العلامة المظفر لو اخذ براي الشريعه بالنسبة الى كلية الخطابه بالخصوص لكان قد واصل نجاحه الى آخر الشوط.

لقد كان شيخ الشريعة رحمه الله ممتلأ حماسا ونشاطا وحيوية ويؤثر حماسه ونشاطه وقوة منطقه على كل من حوله وبالخصوص الطلاب يزيدهم حماسا وقناعة وصلابة وفي نفس الوقت يؤثر اثرا سلبيا على بعض قدامى الاساتذة والذين يشعرون بالاحباط لفقدان مواقعهم . وبما انه كان يحتل منصب رئيس او عميد الكليه وهو الشخص الثاني بعد العلامة المظفر عميد الجمعيه فقد اضطر لترشيح احد طلاب الصف المنتهي لاشغال الصفوف وفي بعض الاحيان حتى الصف الذي ما قبله مباشرة عندما يتغيب احد الاساتذة وقد كان يحصل ذلك مرارا بعد ان الغت الحكومة العراقيه اعترافها ، وقد كان الاعتراف كما يبدوا مجاملة واسترضاء للنجف والجاليه الدينيه بها والتي لها الفضل الاكبر في حصول العراق على استقلاله وطرد الغزاة ولثقلها ومكانتها لدى الشعب العراقي الذي يدين اكثريته بالولاء لها . لقد اثار ترشيح بعض الطلاب المتقدمين للقيام مقام الاساتذة الذين قل التزامهم وحماسهم بعد ان الغى الاعتراف بشهادة الكلية وبعد ان سحبت المخصصات التي كان يتقاضاها بعضهم ولم يكن في وسع الادارة الضغط عليهم . لقد اثار ذلك حفيظة بعض الاساتذة مما اعتبروه اهانة لهم وقد كانوا من المؤسسين القدامى للجمعيه رغم ان نصيبهم من العلم كان ضئيلا لايرشحهم للموقع الذي يحتلونه بسبب قدمهم ومما زاد المشكلة تعقيدا ان بعض الطلاب قد شغلوا المنصب المؤقت بكفائة وهذا ما سبب بعض الحساسيات بينهم وبين العلامه الشريعه رغم ان العلامة المظفر كان يساندهم لقدمهم فقد كانوا اقدم حتى من الشريعة نفسه .
ان لكل فئة من فئات المجتمع البشري آفة ونقطة ضعف هي سبب كل المشاكل التي يعانون منها او اغلبها وهي السبب الرئيس في كل ما تتعثر به البشرية في سبيل تقدمها وارتفاع مستواها الخلقي ليقربها من السعادة المنشودة والهدف الذي يسيرون باتجاهها والذي اراده الله لهم ( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) فالحكام وتجار السياسة آفتهم وهدفهم الاول هو السلطه والحكم ويضحون لاجلها بكل شيء حتى بمبادئهم ومثلهم - ان كانت لهم - والتجار همهم المال لايشبعون منه مهما نالوا منه فهم كجهنم يقال لها : - هل امتلأت فتقول هل من مزيد . مع علمهم ان مايجمعون لايزيدهم الا عناءا وليس في استطاعتهم الاستفادة مما يزيد عن حاجتهم وعباد الشهوات يركضون خلفها ويرتكبون كل الموبقات لاجل حصولهم على غادة حسناء او ليلة حمراء يشربون حتى الثماله ويرقصون حتى الصباح وان كان ذلك على حساب صحتهم وراحتهم وسعادتهم ولا اقول مبادئهم لان المفروض اساسا انهم بعيدون عنها كل البعد . ورجال الدين آفتهم الرئيسه هي الاعتبارات التي غالبا ما تكون وهما في وهم ، وهمهم الاول ان يمجدهم الناس ويحترمونهم ويقومون احتراما لهم كلما قدموا ويخلون لهم صدر المجالس وتقبل ايديهم و.. لذلك ليس رد الفعل من قبل الاساتذة الذين اعتبروا تصرف شيخ الشريعه بالنسبة لهم اهانة وذلك باعطاء كرسيهم في حالة غيابهم ليشغله طالب ان ذلك استهانة كبيرة بهم . اجل ان رد فعلهم لم يكن غريبا بل كان منتظرا ، لذلك اخذوا يحقدون عليه حقدا كبيرا وان كانت دوافع الشريعه كما كان يبدو انها من باب الاضطرار وتفادي الفوضى والشغب.

ولا استبعد ان تكون لهؤلاء الاساتذة يد في توسيع شقة الخلاف بين الشريعه والمظفر وتحذير المظفر من مغبة ما يدعو اليه الشريعه وتشجيعه ودفعه للانصياع لمطالب الضوضاء . وهذا ما كنت استشفه من مطاوي حديث الشريعة وتاسفه على ما حصل ، وكانت النتيجة ان خسر الكل وتبددت كل تلك الجهود وقبرت كل تلك الامال والاحلام العريضة التي كان يخططون لأنزالها على ارض الواقع.

ان استجابة العلامة المظفر للضغوط التى اثارتها المعارضه او بالاحرى المشاغبين واقدامه على الغاء كلية الخطابه كان لها اثرها النفسي البالغ على العلامه الشريعه بسبب الخيبه والخسارة الكبيره بعد ذلك الحماس والجهد والمخاطر التي تحملها في مقابلة الغوغاء بالشجاعة النادره التي كان يتمتع بها في دفع كل الضغوط والتحديات واهم من ذلك الاحباط الذي كان يشعر به واعتقاده الجازم بانه لو تابع العلامة المظفر الصلابة والاصرار والصمود لاضطر المشاغبين الى الانسحاب وخصوصا قد بدرت ظواهر ذلك بعد ان فشلوا في الحصول على تاييد المراجع وخصوصا المرجع الكبير السيد ابو الحسن كما اسلفنا . ولاعتقاده ايضا ان الاستجابة وحل الكليه سيكون اعترافا بالخطاء وسيكون من العسير بعد ذلك متابعة السير وهذا ما حصل فعلا .
لقد اثر كل ذلك على موقف العلامة الشريعه وصحته فقد قدم استقالته ونظرا لسوء صحتة فقد سافرالى سامراء للاستجمام وبعدها ترك العراق وسافر الى ايران وبعد فترة اخرى انتقل الى باكستان . ومع كل ما حصل فان العلامة الشريعه ظل على ولائه وتقديره للعلامة المظفر ولم تسمع منه اي كلمة تنال من العلامة او تخدش في اخلاصه واستقامته . الا ان مرارة الفشل في تحقيق الاصلاحات الذي نذر نفسه لها قد تركت اثارها السيئة على نفسيته وصحته وتطلعاته وعاش في شبه عزلة.

وللحقيقة وحدها يجب الاعتراف بان شخصية العلامة الشريعة والعلامة المظفر مجتمعتين يكونان شخصية قوية تتمع بكل المؤهلات للقيام والمناداة بالاصلاح ومواصلة ذلك بجد واجتهاد فقد كانت شخصية المظفر تتمتع بالطيبة والبساطة والاخلاص لحد التفاني ونكران الذات نكرانا كاملا بالاضافة الى مقامه العلمي ومحبوبيته لدى الاوساط العلمية وكل من عرفه وتعامل معه دون استثناء . وبجنبها شخصية الشريعه التي تتمتع بالصلابة والجراة وقوة الشخصيه وبعد النظر وحسن التخطيط والصرامة في الاداره وعدم الخضوع لاي ضغوط تثنيه عن السير في الطريق الذي رسمه وآمن به ونذر نفسه لتحقيقه . وكأنه بهذا يعيد شخصية المرحوم والده شيخ الشريعة المرجع الكبير وبطل ثورة العشرين والذي ظل الى آخر ايام حياته صلبا قويا وترك اثرا طيبا ليس فقط في نفوس جيله بل الاجيال التي تليه وسجل فخرا لمواقف رجال الدين بصلابتهم في وجه الغزاة والمعتدين دون ان تاخذهم لومة لائم ودون ان يابهوا للعتاة الطغاة مهما قوية شوكتهم.

وان انفكاك هاتين الشخصيتين بمواهبهما التي تكمل بعضهما البعض حتى كانها شخصية واحدة استجمعت كل مايلزم للقيام بالمهمة والسير في خط الاصلاح بخطى واسعة كان لابد ان يترك اثرا سيئا على سير الجمعيه في خططها الاصلاحيه وتعد انتكاسه واقعيه قد حققت أماني المتصيدين في الماء العاكر والذين كانوا يقفون كحجر عثرة في سبيل تحيق الجمعية اهدافها المنشوده . وكان نتيجة ذلك ان قلصت الجمعية نشاطها بشكل بين فقد الغيت كلية الخطابه وعندما تخرجت اول دورة من كلية الفقه وكان عددهم بضعة اشخاص وكنت احدهم توقفت الكلية عن الاستمرار في سيرها واغلقت ابوابها تقريبا اذ لم يوفق الطلاب الذين بعدنا وكنا نسبقهم بسنة واحدة الاستمرار والتخرج ونحن ايضا لم يتح لنا الاستمرار للحصول على شهادة الماجستير وما بعدها . وكنا نمني انفسنا في مواصلة ذلك والى ابعد من ذلك ، لذلك فقد اضطررنا جميعا الى ترك الدراسة وتغيير خط سيرنا ونزلنا جميعا دون استثناء الى الاسواق لامتهان التجاره او ممارسة الاعمال التي تخص التجاره . اذ لم يكن من السهل علينا ونحن قد تشبعنا بافكار خاصه ورسمنا لامالنا واحلامنا اطراً مذهبه . لم يكن من السهل - علينا وكلنا بلا استثناء ايضا كنا معدمين - ان نلتحق بدرس فلان او حوزة فلان ونمد ايدينا بتملق وخنوع لناخذ ما يسد رمقنا . بالاضافة الى ان فشل الكلية حتى في اقامة حفل تخرج لنا كما هو المتعارف وكما كان العلامة الشريعه بالذات يمنينا بذلك ونحن الذين قد تعودنا ان نقيم الاحتفالات لابسط المناسبات.

اجل ان هذا الفشل وانحلال العرى الوثيقة للجمعية وتشتت افرادها وافكارها كان له الاثر السيء على نفسياتنا فقد اماتت في نفوسنا كل الامال والاحلام واندفعنا الى الادنى ونحن ناقمين محطمين.

ولايفوتني ان اذكر للحقيقة ايضا ان الحساسية التي كانت وتوسعت بين الشريعه وبعض الاساتذه لصرامته ولاعتقادهم بانه يتحداهم بتقديم طلاب السنة المنتهية والاشادة بهم مما جعل لهم موقعا خاصا بين بقية الطلاب فقد كان كثير من الطلاب يضيفون عليهم لقب استاذ لكثرة ترددهم عليهم في الصفوف لاشغالها بدل الاستاذ الغائب ولان كل واحد منهم التزم عددا من الطلاب لتوجيههم والاشراف على المقالات التي يكتبونها للنشرة المدرسيه التي تعلق في ساحة المدرسه.

اجل ان الحساسيه التي حصلت بين الشريعه وبعض الاساتذه حالت دون قبولنا كطلاب متخرجين انهينا دراستنا وحصلنا على بكلريوس للانتماء الى المجمع الثقافي الذي اسس ضمن نشاطات الجمعيه وكان يضم ثلة من الاساتذه وكانت تمارس نشاطها الادبي باقامة حفلات خاصه بهم وربما كان هناك سبب اخر فان بعض طلاب المتخرجين والذين كانوا كثيرا ما يشاركون في الحفلات العامه التي تقيمها الجمعية نثرا وشعرا . اجل ربما ان بعض الاساتذة كانوا يشعرون بانهم لايستطيعون منافستهم وهذا ما كان يقلل من شانهم وسبق ان اشرت ان الاعتباريات سواء كانت واقعيه او وهميه هي الافة التي قد ابتلى بها بعض رجال الدين.

ان رفض المجمع الثقافي قبول هؤلاء الطلاب رغم تخرجهم وانتمائهم الى الجمعيه مما يؤهلهم للالتحاق بالمجمع والمشاركة في نشاطاته وعدم فتح باب اخر لنشاط هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم ربما كان سببا اخر او من الاسباب الرئيسه التي دفعت الطلاب المتخرجين الى الاسواق لانهم لم يجدوا امامهم بابا اخر يدخلوا من طريقه الى مواصلة دراستهم او نشاطهم العلمي والثقافي بالاضافة الى ان الامال التي كانت قد عقدت على استمرار نشاط الجمعيه في التغيير والاصلاحات التي كانوا يحلمون بها قد بدت وكانها سراب خادع ليس ورائه شيء.

وبعد عدة سنوات استطاعت الجمعية ان ترمم ما اصابها وتتجاوز اثر النكسه وتعيد كلية الفقه بعد اعادة السلطات الاعتراف بشهادتها وتخرج منها زمرة طيبة واصلت بعد ذلك دراستها ونال قسم من المتخرجين شهادة الدكتوراه واصبح لهم شانهم ومقامهم في المجتمع فقد مارس بعضهم التدريس في كلية الفقه.

اذكر منهم ممن كانوا معنا في نفس الفتره ولم يستطيعوا المواصلة والتخرج في حينه لان الكلية اقفلت ابوابها : - الدكتور الشيخ احمد الوائلي والدكتور السيد محمد بحر العلوم والدكتور محمود المظفر والدكتور السيد مصطفى جمال الدين الذي كانت له ارتباطات وثيقة بالجمعيه وطلاب الكليه . وهناك اخرون لم يكونوا اصلا في تلك الفترة وانما انتموا الى الكلية بعد اعادة فتحها وتخرجوا ونالوا شهادة الدكتوراه.

والحقيقة اني لم اكن اتابع سير الجمعية والكلية في الفترات الاخيره خصوصا بعد وفاة المرحوم العلامه المظفر ، وكل ما بقى هو العلاقات الشخصيه التي تربطني بالاساتذه والطلاب القدامى حتى انني عندما كنت ازور النجف في المناسبات قلما كنت ازور الجمعيه وانما ازور بعض الاساتذة والتقي ببعض الزملاء بصورة عفويه وليست لدي معلومات كافيه عن سير الجمعيه والكلية واهدافها والافكار التي كانت تهيمن على المنتمين اليها اساتذة وطلابا.

خلاصة الافكار

لم اقرأ ما كتب المرحوم العلامه المظفر في بيان ارائه واقتراحاته الاصلاحيه ولا ادري هل كتب في الموضوع ام انه اكتفى بما يلقيه في المناسبات وفي احاديثه الخاصه مع طلابه واساتذة الكليه واعضاء الجمعيه . ولا اعتقد في تلك الظروف الخاصه كان الصالح للجمعية نشر اي شيء مكتوب ومسجل في الموضوع ليحرف ويفسر ويئول ويتخذ وسيلة ومعولا لهدم ما كان يبنيه العلامة المظفر بجهد ويشق طريقه بعناء وصمت.

اترى كان من الممكن في جو يعتبرون جلوس الطلاب على الرحلات الخشبيه للدراسه هو نوع من الترف والبذخ يبعدهم عن حياة الزهد التي يجب ان يسلكونها ويعودوا انفسهم عليها اقتداء بامامهم ابي تراب . وان كتابة المقالات الطلابيه للتمرين على الانشاء والكتابة وتعليقها على جدران المدرسة ليقرأها الطلاب الاخرون ويستفيدوا منها هو نوع من الخروج المسلكي والذي سيعوقهم عن التفرغ للفقه والاصول ، وكأن الفقه والاصول وحدهما فقط الاساس في دراستهم . وان فتح كلية للخطابة لتهذيب المنبر الحسيني من الخرافات والاكاذيب والمبالغات التي تشوه حتى صورة النبي والائمة الاطهار وتشوه النهضة الحسينيه وتعكس الغرض من التاكيد على المجالس الحسينيه من قبل ائمة ال البيت لتوعية الناس وتثقيفهم واظهار الحقائق وكشفها من وراء ركام المغالطات التي شوهت وجه التاريخ وعكست الحقائق لتثبيت السلطه الظالمه منذ صدر الاسلام وطمس الاحاديث المتواتره والمتفق عليها في الاقتداء بآل بيت الرسول الكريم وتفسيرها بما يخالف الحقيقه والتستر على كل المظالم والمغالطات لطمس الحقائق مما سبب تشويه صورة الاسلام واضاعة الحقائق او تشويهها بالتخرصات .
المجالس الحسينيه التي اريد لها تثقيف العامة ثقافة اسلاميه صحيحة كمدرسة سيارة طوال ايام السنه وتثبيت الطبقة المثقفة وشدها الى مبادئها والدفاع عنها ، ولكنها مع الاسف حولت الى طقوس وتقاليد تزيد في بعض الاحيان الجهلاء جهلا وضياعا وتنفر المثقفين وتبعدهم او تجمد عقولهم وتحجمها لتتقبل كل ما يلقى عليها دون تمحيص ودون اعتراض او مناقشة.

فقط في العبادات وحدها المطلوب منا تقبلها دون السؤال عن سرها وفوائدها والغاية منها لانها اوامر الله وهو اعرف بالمصالح والمفاسد ، فليس لنا مثلا ان نسأل لماذا شرعت صلاة الفجر ركعتين والمغرب ثلاثه ، وما هي فوائد رمي الجمرات او الطواف او .. او ... لانها اوامر يجب تقبلها تعبدا لله تعالى ، فقد ورد الامر بها في القران الكريم والسنة النبوية الشريفه الثابته . لان عقولنا القاصره لايمكنها ان تعرف فلسفة وفوائد كل ذلك ونحن نؤمن ونعتقد ان الله سبحانه وتعالى لايشرع الا ما فيه مصلحة وفائدة للبشر.

اما الامور الاخرى فالعقل فيها احد الاركان الاساسيه ، والحديث المنقول عن الامام الصادق ( ع ) ما مضمونه (كل ما طرق سمعك من احاديثنا فاعرضه على كتاب الله وعقلك فان خالف احدهما فاضرب به عرض الجدار ) وعليه فليس للخطيب ان يصعد المنبر ويلقي كارسال المسلمات كل حديث دون تدقيق وتحقيق وفهم للمقصود منه والتاكد من مصدره.

اجل اذا كان فتح كلية لهذا الغرض النبيل ومن اساتذة ورجال دين لهم مقامهم ومركزهم ومشهود لهم بالدراية والنزاهة يعتبر بدعة تحارب باساليب رخيصة . اترى في مثل هذا الجو العكر يمكن للعلامة المظفر ان ينشر ارائه مكتوبة ومسجلة وهو في اول الطريق يريد ان يشقه بهدوء دون ضوضاء وبدون عوائق ليصل الى الغاية والنهاية بسلامه . لذلك فان كل ما ساكتبه عن اراء العلامة المظفر هو ما سمعته منه شخصيا في احاديثه الخاصه على لسانه شخصيا او على لسان العلامه الشريعه في مجالسه الخاصه.

واعتقد ان اراء العلامة المظفر اذا لم تكن ارائه خاصه به وانها من افرازات المجتمع والتناقضات التي كانت تشاهد فيه فلا شك ان تبنيها والتصريح بها والدعوة لها هي اول البوادر التي ظهرت بصورة علنية وهو اول من تجراء للتصريح بها بين اقرانه وزملائه وطلابه وان كانت في كثير من الاحيان بصورة احاديث عامه ودعوات متواضعه بعيده عن الصخب والهيجان والحماس تحاشيا لردود الفعل القاسيه المترتبه في محيط انكفأ على نفسه واصبحت كل تقاليده مهما كانت تافهة ومهما كانت بعيدة عن الواقع ولا اساس لها اصبحت مقدسه لايمكن المساس بها . تصور حتى شكل اللباس وطريقة المشي ونوع االحذاء ونوع حلاقة الراس وطريقة تمشيط شعر الرأس بالنسبة الى النساء . تصور ان حصل لغط شديد بالنسبة الى ابنة المجتهد الكبير الذي خرجت بعبائة واحدة حيث انها تفرق شعر راسها عند التمشيط بشكل مائل ولا تفرقة من منتصف الراس كما هو متعارف عند النساء الملتزمات ! وقد سمعت وانا طفل هذه القصة واضيفت اليها ان احدى النساء اللواتي كن يفرقن شعرهن بشكل مائل عندما وضعوها على المغتسل وجدوا حية على طول الفرق ، ومع اني كنت اعيش في عائلة دينية هي وحواشيها ورغم انني واثق ان بعض رجالها لايصدقون هذه المقولات الا انني لم اسمع اي تسخيف او تكذيب لها . كلها عادات وتقاليد كانها انزل بها وحي خاص فلا يجوز تعديها ، اما المراسيم والتقاليد في عاشوراء او المناسبات الدينيه كالمواليد و ... فحدث عنها ولا حرج ، فالخروج عنها او عليها خروج عن الدين القويم ، مع العلم ان الكل يعلم انها كلها تقاليد لم تكن في زمن الائمة عليهم السلام وانها ابتدعت من قبل اشخاص متحمسين اما جهلا او نفاقا ورياء او كلاهما وبذلك اصبحت المراسم الحسينيه بدل ان تصبح دعاية هامة للمذهب وكشف زيف النعرات والاتهامات والمغالطات واختلاق الاحاديث والمواقف التي تثبت السلطه الطاغيه والتي تسنمت منبر الرسول في العهد الاموي والعباسي وحرفت الاسلام عن طريقه السليم والقوي الذي رسمه الرسول الكريم بوحي من رب العالمين.

اصبحت هذه المراسم - في كثير منها - تؤدي عكس المطلوب والمخطط ، فهي بدل ان تثقف الطبقة العامه وتكشف لهم بوضوح الحقائق الاسلاميه والتاريخيه الثابته وتسلحهم بمنطق علمي قوي تجعل منهم دعاة للاسلام والطائفة أخذت تحشو ادمغتهم بكثير من المبالغات والخرافات وتضيع عليهم كثيرا من الحقائق وتضعف منطقهم وتخلط لهم الحقائق بغيرها بحيث يلتبس عليهم الحابل بالنابل.

اجل ان ما انقله من اراء العلامة المظفر واهدافه في تغيير وتطوير المجتمع الديني في النجف سواء في طريقة التدريس بالنسبة الى جامعتها التي لاتزال تتبع طريقة القرون الوسطى او بالنسبة الى القيادة الدينية والمرجعية وكيفية تسيير امورها بشكل افضل او ... هو ماسجلته ذاكرتي من احاديثه المتفرقة وفي المناسبات التي يتطرق فيها الى مثل هذه المواضيع . اذ لم اقراء له شيئا مكتوبا ولا ادري لو ان احد اخصائه من اقربائه وتلامذته الاخرين يحتفظ بشئ مكتوب ومسجل في هذا الخصوص وهل ترك العلامة المظفر مذكرات خاصة قد سجل فيها ما كان يجيش في خاطره.

اني لازلت ابحث عن ذلك واذا ما حصلت على شئ مسجل فسيكون هو الفصل اذ ربما خانتني ذاكرتي في بعض الامور او لم اكن حاضرا في بعض مجالسه الخاصة التي كان يسترسل فيها في شرح المشاكل وطريقة علاجها حسب رايه.

وانا وان كنت قد اطلت وتشعبت في الحديث الا انني ساحاول ان اختصر ، وربما مزجت بعض اراء العلامة المظفر باراء العلامة الشريعة لانني اعتقد انهما على توافق تام وانسجام كامل في تشخيص المشاكل وان اختلفو بعض الشئ في طريقة السير والعلاج كما اسلفت.

1- لااتذكر ان للعلامة المظفر اي اعتراض على الطريقة التي يصعد فيها المجتهد ليصبح مقلدا ومرجعا وان كان لايستسيغ بعض الطرق والوسائل التي يسلكها الحفدة والانصار والاقارب وبعض المنتفعين من الاشخاص المقربين في الدعاية كما انه لايرى مبررا لصرف اية اموال من الحقوق على اساليب الدعاية مهما كانت المبررات . الا انه كان يركز على ان من الواجب والضروري فصل الناحية المادية فصلا كاملا عن موضوع المرجعية واحالة الموضوع الى جهة خاصة لديها سجلات خاصة للتدقيق تحت اشراف المراجع.

2 - وضع ضوابط خاصة للصرف تعتمد على الدرجة العلمية والجهد المبذول بالاضافة الى الاحتياجات التي تخص افراد العائلة التي يعول بها الطالب او الاستاذ وحتى المجتهد او المرجع يجب ان يخضع للضوابط شبيهة بالطريقة التي كان يعتمدها الامام على عليه السلام ايام خلافته وبهذه الطريقة سيحتفظ الطالب بكرامته والاستاذ بموقعه ومقامه دون ان يحتاج اي منهم لتملق حاشية هذا وذاك او بمد يده الى غيرهم من سائر الناس كما انه سيسد حاجته الماديه حسب من يعول بهم وحسب الظروف والمستجدات دون عوز او اسراف.

3 - تنظيم الدراسة في المراكز الدينية حسب احدث الطرق العلمية المتبعة اليوم واضافة المواد اللازمة للمنهج الدراسي من العلوم الحديثة التي لايستغني عنها والتى تساعد رجل الدين على فهم الامور الاجتماعية التي لها تماس بالمسائل الدينية وذلك بالاضافة الى الدروس التقليدية من الفقه والاصول والحديث والفلسفة والتفسير وغيرها ، ولابد كذلك من اضافة بعض اللغات الاجنبية الحية ليصبح المجتهد كامل التاهيل في استنباطاته الشرعية عندما يصل الى تلك المرحلة وليكون على اطلاع تام باوضاع العالم على اختلاف مناطقهم.

4 - غربلة الكتب الدراسية القديمة وتنقيحها واعادة كتابتها باسلوب حديث يسهل على الطالب تلقيها واستيعابها وقد بدأ هو نفسه فعلا بكتابة محاضراته في الاصول والمنطق والتي كان يلقيها علينا ونعيد كتابتها بدل الكتب القديمة المعقدة والتي تحتوي على اصول وشروح بعبارات واصطلاحات لايكاد يفهمها الطالب الا بعناء شديد . وقد طبع بعضها.

5 - انشاء كليات اخرى علمية وادبية واجتماعية ذات اختصاصات خاصة معترف بها من قبل الجامعات العلمية لتسد حاجة الواجب الكفائي في العلوم الاخرى كالطب والهندسة وليصبح الخريج منها بتوجيهاته االدينية داعية واعية للاسلام وتطبيقه بصورة صحيحة وسليمة بعيدا عن الانحرافات وبعيدا عن التطرف ويمارس عمله المهني بصورة طبيعية ويمكن الاستفادة من بعضهم في التدريس او الشؤون الاخرى حسب احتياج الحوزة.

6 - تهيئة الطلاب الخريجين بدرجة بكالوريوس فما فوق وتزويدهم بما يحتاجونه من معلومات وارشادات ليصبحوا مبلغين وائمة جماعة في القرى والارياف ممن لايرغبون او لاتساعدهم ظروفهم في مواصلة الدراسة واعطائهم رواتب محددة تسد احتياجاتهم حسب الضوابط الموضوعة ولايسمح لهم باستلام اي مبلغ من الحقوق من اي شخص لحسابهم وانما عليهم ان يستلموا المبالغ بوصولات ويحولوها الى اللجنة المالية المختصة لتصرف حسب القواعد والضوابط المقررة.

7 - بناء مساكن خاصة للطلاب ورجال الدين يسكن فيها كل من لايزال يمارس وظيفة دينية وتعتبر اوقاف عامة لايستفيد منها الا طلاب ورجال الدين او ابنائهم القصر في حالة الوفاة.

8 - انشاء كلية للخطابة والوعظ والارشاد تزود بجميع المناهج المطلوبة للخطيب ويمنح شهادة اكاديميه ويحاسب الخريجون اذا شذوا عن المنهج القويم وذلك بسحب اجازة الممارسة الممنوحة لهم بعد التخرج.

9 - تحقيق كتب التراث وتنقيتها من الشوائب وطبع المفيد منها لتعم الاستفادة وتعطي صورة واضحة ومنيرة عن عقائد الطائفة وسلوكيتها.

1. - تربية الناشئة بالالتزام بالثوابت الدينية وسلوكية النبي والائمة الطاهرين عليهم السلام ونبذ جميع السلوكيات الشائبة والعادات التي لاتمت الى الاسلام وتسيء اليه وتعطي صورة قاتمة عن الاسلام لاتمت الى مبادئه وسلوكيته لامن بعيد ولا من قريب .
واخيرا اود ان اشير الى ان العلامة المظفر طيب الله ثراه كان يركز وبالحاح على ان يحتفظ الطالب الديني والذي سيصبح يوما مرشدا او مقلدا او مرجعا باستقلاليته وكرامته وشموخه دون الخضوع او التاثر باي ملابسات وظروف تؤثر على قوة شخصيته في اتخاذ قراراته وسلوكيته . واعتقد انه مصيب كل الاصابة في ذلك فالظروف والملابسات والسلوكية التي يسير عليها الطلاب من بداية حياتهم لها التاثير الكلي والسلبي في بعض الاحيان على مجمل حياتهم.

11- انشاء لجان استشارية بالنسبة الى المرجعية في الامور الاجتماعية والمالية والتنظيمية وبالخصوص السياسية . فان غالبية رجال الدين وحتى بعض المراجع بعيدين عن السياسة وشؤنها وتقلباتها واحاييلها في حين ان مركزهم يحتم عليهم التدخل في كثير من الامور السياسية لمحاسبة السلطة وتوجيهها او مقاومتها لما لهم من ثقل كبير لدى عامة الشعب وما يوجبه موقفهم وواجبهم في حفظ بيضة الاسلام وحماية المسلمين في كل مكان من اي جور او تعسف او انحراف .
ولكن مع الاسف ان كثير من المراجع وحواشيهم من البساطة والسذاجة والطيبة - لانكفائهم على بحوثهم وبعدهم عن الحياة الاجتماعية وملابساتها وتشعباتها - بحيث تنطوي عليهم كثير من الامور . ويضرب لذلك مثلا حيا : فقد حدثت في الاربعينات مظاهرات طلابية صاخبة في النجف الاشرف واستخدمت الشرطة لتفريقها الاسلحة النارية مما سبب في قتل حفيد احد المراجع فهاجت النجف وماجت واغلقت الاسواق وتعطلت الدراسة .
فاضطرت السلطة لارسال وفد بمستوى عال لتهدئة الاوضاع ، وطبعا كان المفتاح هم المراجع والمرجع الاكبر بالذات ، وقد اجتمعوا بابنه الذي هو ايضا من المجتهدين الفضلاء .
وقد عاد العلامة المظفر من زيارته وهو مستغرب ومتعجب من سذاجته وبساطته فقد شاهده مذهولا ومتحيرا فقد كان حديث الوفد معه انكم اذا كنتم لاتريدوننا - حيث انهم يمثلون السلطة - اعطونا كهربائنا ومائنا وخذو بلدتكم النجف . وقد استطاعوا ان يلينوا موقفه بهذا التهديد اذ كيف تستطيع النجف - لو نفذوا تهديدهم - ان تعيش بلا ماء ولا كهرباء ، وكأنما الماء والكهرباء قد ورثته السلطة من ابائهم واجدادهم - وليست هي ملك الشعب - وان من حقهم او في استطاعتهم سحبها ! انظر الى هذه السذاجة المتناهية ! فكيف يستطيع رجال الدين اذا كانت قيادتهم بهذه الذهنية والسذاجة والطيبة - ان يرسموا لهم سياسة حكيمة ويقارعوا الدهات من الحكام والظلمة ، وربما كانت هذه السذاجة من سذاجة ابو موسى الاشعري الذي جر الامة الى الكارثة .
وحادثة اخرى توضح لنا مدى سذاجة وبساطة الجالية الدينية التي تدير دفة الحوزة ومدى جهلهم بالامور العامة وضحالة تفكيرهم : لقد سمعت المرحوم العلامة الشيخ رضا الشبيبي - العالم والسياسي المعروف - ينقل حادثة عن المسؤل الاول في البلاط الملكي ايام الملك فيصل الاول - وحسبما اتذكر انه نقل هذا الحديث او الحادثة عن رستم حيدر - فبعد ان استتب الامر للملك فيصل الاول واستقر على عرش العراق بفضل جهاد رجال الدين وصلابتهم في مقارعة الانكليز اراد الملك فيصل ان يرد بعض الجميل لرجال الدين ومدينتهم المقدسة فارسل الى المراجع يعرض عليهم خدمات البلاط ويعرض عليهم سد اي نقص وتلبية اي مطلب لهم . فماذا ترى كانت مطالبهم الهامة ؟ لقد تلخصت في شيئين مهمين فقط : توفير الشمع للروضة المقدسة اولا ، والنفط الابيض ثانيا للمصابيح الزيتية التي كانت تستخدم في ذلك الحين - قبل وصول الكهرباء - في الصحن الشريف وازقة البلدة .
والحديث للعلامة الشبيبي يقول : جائني رستم حيدر بالرسالة وهو لايكاد يصدق ان مثل هذه الرسالة يمكن ان تصدر من علماء اجلاء قارعو الاستعمار بصرامة وعبئوا الجماهير وقادوا الجيوش ضده مما اضطره الى الاعتراف بالامر الواقع وارغامه على الاعتراف باستقلال العراق.

12- يؤكد العلامة المظفر ان من الضروري جدا ان يجتمع المراجع ويتداولو في الشؤن العامة والامور المستجدة بشكل دوري منظم او لا اقل عندما تقتضي الحاجة وان يتجاوزوا بعض الخلافات التي تنشأ غالبا من تصرفات بعض الحواشي او المحسوبين والمنسوبين بشكل غير مسؤل قصورا اوتقصيرا او ممن يتصيدون في الماء العكر ، وقد كانت تحصل بصورة جزئية غير منظمة بعض الاحيان ، فقد اجتمع المرجعين الرئيسين اية الله السيد ابو الحسن الاصفهاني واية الله ميرزا حسين النائيني عدة مرات عندما كانت تقتضي الضرورة والحاجة في مواجهة بعض الامور الهامة الا ان هذا لم يكن كافيا ولايتناول كل الامور التي يجب ان يوحد رايهم فيها او لااقل يناقشوها ، ومن الضروري تشكيل اجتماعات دورية او عندما تقتضي الحاجة للمداولة في بعض الشؤن والمستحدثات سواء في الامور السياسية او الاجتماعية او التنظيمية وبذلك سيوفقون الى توجيه كثير من الامور الى مسارها الصحيح او الافضل.

كما ان من الضروري كما اسلفنا تشكيل لجان استشارية متخصصة في الامور السياسية والامور العامة .
ولا اعتقد انه كان يرى ان يخول المجلس رئيسا منتخبا ومسيطرا كما هو الحال في الفاتيكان ، فان باب الاجتهاد بالنسبة الى الطائفة الشيعية مفتوح ويجب ان يبقى كذلك وللعامة حق تقليد من يعتقدون انه احق بذلك بدون اي ضغط وهذا ما يحفظ للطائفة والمرجعية بالذات دوام استقلالها بعيدة عن اية توجيه او ضغوط من اية سلطة او جهة.

قلت لااعتقد لانني لا اتخطر ان اثير هذا الموضوع او تحدث عنه العلامة المظفر ولا ادري لو كان قد اثير الموضوع هل كان يميل الى تشكيل مجلس من جميع المجتهدين واختيار من يجدونه الاجدر والاليق ليتسلم مركز المرجعية العامة ويعتبر بعد ذلك هذا المجلس استشاريا يستعين به المرجع في مناقشة الامور العامة.


المصدر: مجلة الموسم الإلكترونية




0 تعليقات: