الجواهري في ضيافة السيد القائد - مدين الموسوي


رحلتي مع الجواهري من الاعجاب الى العجب (المصدر موقع الشبكة العراقية)
اثارت هذه المذكرات موجة من الاعتراضات والتفاعلات في الساحة العربية والعالمية لما تحمله من بوح مفرط في تفاصيل ويوميات شاعر العرب الاكبر المرحوم محمد مهدي الجواهري حينما نشرها الشاعر جابر الجابري (مدين الموسوي) في صحيفة السفير اللبنانية على شكل حلقات ثم نشرتها مجلة القصب في عدد 11 عام 1997 كلا النشرين خارج العراق ولم يطلع عليه العراقيون وقد اثار نشرها انذاك حفيظة الكثير من المتلقين من فضائيات وصحف ومجلات وقد طال وقوف الشاعر مدين الموسوي امام الاعلام مدافعا عن مذكراته هذه مبررا ذلك بتقديم مادة سايكولوجية عن شخصية العملاق توفر الكثير من العناء والجهد على الباحثين .لكن رغم ضخامة هذه الضجة الا انها ظلت بعيدة ومحجوبة عن المتلقي العراقي في الداخل الذي له الاولوية في التعرف على رجالاته ورموزه بعد ان حجبتها غيوم الدكتاتور، يقينا ان التاريخ ليس ملكا لاحد، وليس لاحد ان يغير الوان اللوحة حسب شهية قلمه، لهذا ارتأت مجلة ( الشبكة العراقية) ان تضع بين يدي العراقيين هذه المذكرات على شكل حلقات فاتحة باب الحوار العراقي- العراقي حول هذه المادة المهمة التي ستسهم في عملية الحراك الثقافي.



اغلق النادل بعض نوافذ المقهى، ايذانا بنهاية الوقت، فهممنا بالانصراف دون ان يعثر الجواهري على خيط القصيدة. في الطريق حدثني عن قصيدة المعري:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا***واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
قال: انتقلت بها من مكان الى مكان، حتى خرجت في اللاذقية على البحر، هل هنا بحر قريب؟
اجبته: الوقت لا يتسع، اللقاء غدا مساء، والبحر يبعد اربع ساعات برا او نصف ساعة جوا.
فقال: انفكر للصبح.

في جناح الفندق افترقنا عند الواحدة والنصف ليلا، على امل ان تاتي القصيدة في الصباح، ولم اكن اتوقع مجيئها. في غرفتي المجاورة، وجدت عدة اتصالات هاتفية تطلب الاجابة عليها، وكانت كلها لاسماء او شخصيات لا يمكن اهمالها، الجميع يريد لقاء الجواهري، والجواهري لا يريد لقاء احد، حتى ابناء اسرته في ايران لا يود لقاءهم، وهذا ما سبّب لي احراجا معهم، اذ انهم يظنون ذلك اجتهادا شخصيا مني، وليس امرا يخص الجواهري، وحتى من استطاع التسلل الى غرفة الجواهري دون اذن مسبق، زعق في وجهه ولم يمد يده لمصافحته، فانسحب بهدوء تحت ذهول المفاجأة، وانسحبت وراءه للاعتذار. لم انس لون الاستاذ (....) الذي زاره مرتين متوددا غاية التودد، واخيرا ثار بوجهه ثورة عمياء دون مبرر، وطلب منه ان لا يتكلم معه مطلقا. فقد دخل الدكتور (...) وهو احد اساتذة الادب العربي في الجامعة، وجلس امام الجواهري بكل ادب ووقار، ثم اخذ يلاطفه ويتودد له بكلمات رقيقة عذبة وهو يقشر التفاح ويضعه امامه، ويقول: سيكتب عني التاريخ انني قشرت التفاح للجواهري.. وسأقول لبناتي في البيت انني اليوم كنت عند استاذنا الجواهري..! ظننت ان هذه الكلمات ستشفع للرجل وترطب الاجواء، وتغير من مزاج الشاعر المنفعل دائما، لم ينطق الجواهري بحرف، وكانه خشبة يابسة.. ساد الوجوم بعض الوقت، فحاول الاستاذ ان يقاطعه بسؤال ظنه مفتاحا للجواهري المقفل.

قال: استاذنا الكبير، هل كتبت فيكم رسالة جامعية، للماجستير او الدكتوراه، نحن نعلم ان اليعقوبي كتبت فيه رسائل، والشرقي، والشبيبي، كتبت فيهم رسائل جامعية، فهل كتبت فيكم رسائل؟

سكت الجواهري لثوان قليلة، ثم انفجر بالرجل: انته ليش ما عندك حكي زين، اذا ما تعرف تحكي اسكت، انا بحاجة الى رسالة جامعية انعل ابو الشرقي لا ابو اليعقوبي، اذا ما عندك شغل، شوفلك شغلة وروح الها..!

وانهال عليه بسوط الكلمات القاسية، حتى اضطررت لرفع صوتي، صارخا بالجواهري: ابو فرات، هو شگال لك الرجل، وبعدين جاي ايزورك، معقولة هاي منك. قطعت صرختي هدير الجواهري، فامسكت بيد الاستاذ برفق واخرجته من الغرفة وهو مذهول من الشاعر الكبير. كانت هذه الحادثة تشكل نهاية الدخول الى غرفة الجواهري من اي شخص، كما هو صفارة انذار بمزاجه المتقلب وحالهِ القلقة.

اسفر الصبح ولم يسفر وجه القصيدة امام الجواهري، كان يقطع الجناح الواسع ذهابا وايابا، ويداه وراء ظهره في تشابك دل على قلقه وتوتره. اردت ان اهون عليه الخطب.

قلت له: ابا فرات، لا تتعب نفسك، القصيدة ليست ضرورية اليوم.
اجابني بحنق: مو مناسبة، التقي اول مرة بالقائد الخامنئي، وما عندي شيء له، هوه الجواهري شنو بدون شعر.
ثم عقب قائلا: ماكو بطهران مقهى شعبي، فيه ازدحام وطق ملاعق شاي ودخان سيجار؟

لم تسعفني الذاكرة للاجابة على طلبه فطهران لم تعتد على شرب الشاي بالملاعق، ولم اعثر في مقاهيها على رغبة الجواهري كما اني لم اكن من رواد المقاهي الشعبية لاعرف اسرارها على الشعراء وعندها تذكرت ان اغلب قصائده هي وليدة المقاهي العامة في براغ وباريس ولندن،لكن طهران ليس بوسعها ان تلبي رغبة الجواهري بمقاهيها المتواضعة.

قلت له: كنا البارحة في اجمل مناطق طهران واحلى مقاهيها.
قال لي: صحيح ، بس آنه اريد مقهى شعبي قديم مزدحم بيه اصوات استكانات وخواشيق ودخان سيجاير.
قلت له : انته تعرف الطهرانيين ما يستخدمون الخواشيق، يشربون الشاي “دشلمة”.
وفجأة تذكرت المقهى الخاص بغير المسلمين وسط العاصمة، والذي يرتاده الناس بشكل مختلط، نساءً ورجالاً كنت بمحض الصدفة مع صديق ارمني، اخذني اليه بعد جولة طويلة في مركز المدينة.

قلت له : وجدتها، ابا فرات، كوم انروح للمقهى الي تريده.
بعد دقائق كانت السيارة المعدة لنقلنا تقف قبالة المقهى في شارع اسطنبول مقابل السفارة البريطانية وينزل منها الجواهري ليترامى على احدى طاولاتها فيما كان المكان يزدحم بالرواد ويكتظ بالدخان.

قال الجواهري وكأنه في حلم : ايه هذا المكان اللي اريده.جلسنا على الطاولة وسرح الجواهري ببصره في اجواء المقهى، يتلمس زواياه وطاولاته ويمسح الجدران والثريات المعلقة في سقفها بشيء من الحميمية والالفة.

بقي الجسد الجواهري على الكرسي الخشبي امامي، فيما حلقت روحه في فضاءات الخيال.غاب عني تماماً، وعيناه تجريان مسحاً شاملاً لاشياء المكان حتى استقرتا على نقطة لا تبعد عنا كثيراً، بقيت عيناه مشدودتين اليها، حتى هز رأسه معبراً عن الاثارة التي احتشدت بداخله .. وهو يقول:خرب عرضچ على هذا الظهر، صحيح والله، بزَّ حُسنَ الوجوه حسن قفاك وبصمت تعقبت خط النظر الى القفا الذي خطف الجواهري، فوجدته ظهر فتاة تجلس على احدى الطاولات القريبة تتدلى عليه خصلة شقراء من شعرها فيما كان يغطي رأسها شال بني غامق.
كان هذا المشهد يمثل فتيل الانفجار للغم القصيدة الكامنة في اعماق الجواهري، التفت الي بعدها قائلاً … اكتب اكتب القصيدة:
سيدي ايها الاعز الاجلّ*** انت ذو منة وانت المدل
يعجز الحرف ان يوفي عظيماً***كل ما قيل في سواه يقل
ايها الشامخ الذي شاءه الله زعيماً لثورة تستهل
لك في ذمة الاله يمين***يد من مسها بسوء تشل
لك في السلم منبر لا يجارى***لك في الحرب مضرب لا يفل
لك اهل فوق الذرى ومحل***لك بعد في المكرمات وقبل

وتدفقت الابيات على لسانه دفعة واحدة دون توفق، ثم سكت قليلاً ، وكأنه نسي ظهر الفتاة

قلت له: ابو فرات، الظهر بستة ابيات، والوجه بستين بيت، شنو رايك اجيبها تكعد يمك؟
قال لي : ياريت والله.

قمت لادعوها الى الطاولة ثم تراجعت بعد ان وصلت محاذاتها، ماذا سأقول لها بالضبط؟ وهل ستستجيب لرجل بهذا العمر لتجلس معه على طاولة واحدة وبأي لسان سيكلمها وتكلمه، تراجعت عن الفكرة .. ولعل القصيدة كانت ستواصل انفجارها، لو رأى الجواهري وجهها الطهراني المثير، وانوثتها المتدفقة.رجعت الى الجواهري واخبرته باعتذارها، فسكت وسكتت القصيدة بين شفتيه.

عند عودتنا الى الفندق، وجدت رسالة هاتفية من المكتب تؤكد الموعد المقرر للقاء وتحدده بصلاة العشاء ليأتم الجواهري بالسيد الخامنئي، ثم يبدأ اللقاء وهنا طرأت مشكلة جديدة، واجهها الجواهري بامتعاض شديد، فبينه وبين الصلاة اكثر من سبعين عاماً لم يعرف اتجاه القبلة فيها، ويبدو انه انهى علاقته بالصلاة تماماً لذلك اعتبر الموعد تحدياً لقناعته واختبارا قسرياً لايمانه.اخذ الجواهري يتململ من الموعد ويتذمر من هذه الورطة.

قلت له : ابو فرات مابيها شيء، صل ركعتين بها العمر، شيصير عليك.
قال :آنه ما عندي مانع اصلي، لكن ناسيها، الصلاة ناسيها.
قلت له: هي الصلاة جماعة، شما يسوون انت تسوي مثلهم، وانه راح اقف يمك اذا غلطت انه اندسك.
قال لي: خوش فكرة، بس انتم تعتبرون الصلاة كل شيء، يعني هو الايمان بس صلاة، انه ماكو مؤمن مثلي بس بطريقتي الخاصة. ثم استدرك قائلا: ابن بنتي علمني الصلاة قبل شكم يوم، بس بعدني ما ضابطها.

اقترب الموعد، والجواهري يزداد تململا من الصلاة، فلم اجد بدا من الاتصال بالمكتب لتأجيل الموعد بعد اداء الصلاة، دون ان اطلعهم على السبب، مع انهم طلبوا تفسيرا لذلك، وتمت الموافقة على التاجيل. انفرجت اسارير الجواهري حين اخبرته بتغيير الموعد والغاء الصلاة، فعاد الى القصيدة لاكمالها، لكنه لم يوفق.

قال لي: هاي ابيات قليلة، وما مناسبة للقاء السيد.
قلت له: انه اقترح تكتبها على ديوانك، وتقدمه للسيد اثناء اللقاء بدلا من قراءتها.

استحسن الفكرة، لكنه عدل عن الديوان الى كتاب “ذكرياتي” وطلب مني ان اكتب الابيات بخط يدي على الكتاب، وحين انتهت الابيات الستة اكملها ببيت واحد يعتذر فيها لما ورد في الكتاب:
فاغتفر لي ما جاء في ذكرياتي يا عطوفا على خطى من يزل
***
كل شيء كان رتيبا وعاديا في الصالة التي دخلناها بانتظار السيد الخامنئي، ليلتقي الجواهري، غرفة مستطيلة، باهتة الاضواء، وارض مفروشة بالسجاد المتواضع، على زاويتها اليمنى القيت ثلاثة مقاعد من الاسفنج، احاطت بها اربعة مساند يتكئ عليها الجالس على الارض. كان الوقت يمر سريعا مع الجواهري والمندوب الشخصي، وشيء من الهيبة يغطي المكان، حتى اطل السيد الخامنئي بقامته الفارعة، فاتحا ذراعيه قبل امتار من وصوله الجواهري ومرحبا بحرارة بضيفه العزيز، الذي قام بدوره متكئا علي ليخطو باتجاهه. انها المرة الاولى التي يتكئ علي الجواهري في النهوض، اذ لم يكن قبلها ينهض او يجلس الا بمفرده، بل يأبى ان يمسكه احد، متظاهرا بالعنفوان والقوة، الا في هذه اللحظة التي ترامى بها علي، فأحسست بثقله كله ينزل على ساعدي، الذي امسكه بشدة. وبقدر ما اثارني الجواهري في تراميه علي، ادهشني السيد الخامنئي في طريقة دخوله واحتفائه بضيفه، وهو يفتح ذراعيه، ويرفع صوته بالترحيب الممتزج بابتسامة عريضة احتلت قسمات وجهه، فكان اشبه بلقاء عاشقين وجدا فرصة للعناق الحار. لم يتمالك الجواهري نفسه، حتى هوى على يده يقبلها، ثم يقبل اليسرى، ثم يتهاوى على قدميه، في حركة مدهشة فاجأت الجميع، ليواصل تقبيلهما وهو يردد: دعني اقبل قدميك.

ذهلت للمفاجأة، وذهل من معي، واعتقد ان السيد الخامنئي نفسه لم يكن يتوقع من هذا الجبل الشامخ ان يتهاوى على قدميه، بالتاكيد كانت الصورة مغايرة تماما، فالجواهري المبدع والمناضل، الذي عاش في ذاكرة السيد الخامنئي طوال اربعين عاما- كما اشار هو الى ذلك- غير الجواهري الذي يترامى على اقدامه لتقبيلهما. صعق السيد الخامنئي لهذا المشهد، وانحنى ليرفعه ويوقفه امامه، ثم راح يعانقه من جديد. استقر بنا المجلس، وبدأ السيد الخامنئي بتحية الحاضرين الذين لم يزيدوا على اربعة، رحب بنا فردا فردا، ثم التفت الى الجواهري.

- اهلا وسهلا استاذ، انا كنت بانتظاركم اربعين سنة، واتمنى من الله ان تبقى اربعين سنة اخرى، لنستطيع تأدية واجبك.
الجواهري: وانا اشكر الله على هذه الفرصة الطيبة.
الخامنئي: في بيت الجواهري قمتان للعلم والادب، المرحوم صاحب الجواهر يمثل قمة العلم، وانتم تمثلون قمة الادب.
الجواهري: هذا شعور طيب انا افتخر به من سماحتكم، وانا اتمنى ان تتحولوا الى قدوة طيبة عند الزعماء، وكما رايت نور محمد في وجه السيد ابو الحسن الاصفهاني في النجف، ارى نوره ينتقل اليكم الان، واشوفه بعيني.
الخامنئي: هذه منة الهية علينا، والشعب الايراني شعب عظيم، يعرف رجاله وقيادته وهو صنع ملحمة كبرى في هذا القرن.
الجواهري: كل الشعوب عظيمة، ولكن ليس لها قيادات عظيمة.
الخامنئي: صحيح كل الشعوب عظيمة.

قدم الجواهري كتاب “ذكرياتي” للخامنئي، وهو يقرا الابيات الشعرية عن ظهر غيب، والخامنئي ينصت بكله اليه، قرأها وهو جالس بجانبه، وردد البيت الاول الذي وردت فيه كلمة “سيدي” واظنه كان متعمدا في ذلك لاثارة السيد، والتاكيد على اعجابه به. وددت في تلك اللحظة ان اقول للسيد الخامنئي، ان هذه القصيدة جاءت محمولة على جديلة شقراء لارمنية في شارع اسطنبول، وان اصف له الظهر الذي خطف الجواهري ليعود مزودا بقصيدته العصماء، كما وددت ان تعلم تلك الفتاة ان ظهرها وجديلتها الشقراء ابدعت رائعة من روائع الجواهري بين يدي السيد “الاعز الاجل” انصت السيد الخامنئي لحروف القصيدة وايقاعها بحنجرة الجواهري، ثم التفت الينا ليقول انها رائعة، احسنت يا استاذ، احسنت. انتهت القصيدة، وابتدأ الحديث الودي بين الرجلين، وفاجأنا السيد الخامنئي بقراءة محفوظاته من شعر الجواهري ووقائع القصائد التي تاثر بها، والجواهري يبدي اعجابه وامتنانه لهذا الاهتمام.

2 تعليقات:

  غير معرف

٥/٥/٠٨ ١٣:٠٦

مرحباً
موقع المصدر لا يعمل، هل ممكن الأجزاء الباقية؟

  غير معرف

١٢/٨/١١ ٠٣:٣٧

السيد مدين الموصوي
اغبطك على تلك الصحبة التي جمعتك مع تلك القمة التي هوت فتداعت معها القوافي انشطارافتفرقت كما هي مسبحة الجواهري عندما تنقطع
فقدنا جبلا لن يتكرر
رحمك الله ابا فرات
فقد ابقيت قوافيك كنهر الفرات
وبقي صوتك حلما غاب ونحن بأمس الحاجة اليه
اشكرك سيدي الموسوي على كل جهد تبذله فروح ابا فرات تناغيك بترنيماتها
اشكرك

من أل شمسة
النجفي